واشنطن تُعيد رسم أولوياتها في لبنان

في خضمّ التوترات المتصاعدة في الجنوب اللبناني، جاء التغيير في رئاسة لجنة مراقبة تنفيذ وقف إطلاق النار (ميكانيزم) كحدث يتجاوز في مضمونه البُعد البروتوكولي الظاهري، ويكشف عن تحولات أعمق في المشهدين الإقليمي والداخلي، لا سيما في ما يتعلق بمسألة سلاح حزب الله التي تعود إلى الواجهة كأحد أبرز عناوين المرحلة المقبلة، بعدما أصبحت هذه المسألة تتجاوز الداخل لتُدار من منظار دولي متعدد الأبعاد: عسكري، سياسي، واستراتيجي.

تفترض القراءة بين السطور أن هذا التبديل لم يكن عابرًا، بل مدروسًا، خصوصًا أن واشنطن اختارت الميجور جنرال مايكل ليني كيج، وهو ذات خبرة في إدارة الأزمات في البيئات المعقدة والمتعددة التداخلات. فالزيارة، وإن أُحيطت بطابع تقني، حملت رسائل صريحة إلى الدولة اللبنانية، حزب الله، والمجتمع الدولي، مفادها أن استراتيجية الولايات المتحدة في لبنان مستمرة، وأن الجيش اللبناني لا يزال في صلب هذه المعادلة. وقد حرص جيفرز، خلال زيارته الوداعية، على إعادة تأكيد ثلاث ركائز: استمرار الدعم الأميركي للجيش، الحفاظ على قنوات التنسيق مع القيادة العسكرية، وإبقاء لبنان أولوية في السياسة الدفاعية الأميركية في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من أن هذه النقاط تبدو مألوفة، إلا أن توقيت طرحها يعكس بوضوح رغبة أميركية في إعادة التموضع في لبنان بما يوازن بين الضغط على السلاح غير الشرعي ودعم المؤسسة الرسمية الوحيدة القادرة على ضبط التوازن.

وإذا كانت المؤسسة العسكرية تحظى بدعم خارجي صريح، فإن الضغوط تتزايد في ما يخص سلاح حزب الله. عبّر عن ذلك مسعد بولس، كبير مستشاري الرئيس الأميركي، حين أكد أن على الجيش اللبناني تنفيذ القرار 1701 في كامل الأراضي اللبنانية، لا جنوب الليطاني فقط. هذا التصريح، وإن بدا تقنيًا في ظاهره، يشير إلى تصعيد تدريجي في المقاربة الأميركية التي انتقلت من سياسة «الاحتواء الهادئ» إلى الضغط العلني. ولعل هذه الرسائل المتكررة تأتي في وقت حساس، يتزامن مع مؤشرات خجولة لحوار داخلي لم يكتمل بعد، بين رئاسة الجمهورية وحزب الله، في محاولة للبحث عن مخرج سياسي مرحلي يضمن الاستقرار ويعالج مسألة السلاح من دون الصدام معها مباشرة.

لكن في المقابل، لم تقف الدولة اللبنانية موقف المتفرج، بل جاء تصريح رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون بأن الجيش «أنجز مهمته جنوب الليطاني بنسبة 85%»، كرسالة مزدوجة: أولاً لتأكيد الجهوزية الميدانية أمام الداخل، وثانيًا لمخاطبة الخارج بأن المؤسسة العسكرية تقوم بواجبها ضمن المتاح، في محاولة لنزع فتيل الضغط المباشر على ملف السلاح. إلا أن هذا التصريح، على الرغم من أهميته، لا يلغي أن الإنجاز العسكري لا يمكن فصله عن التوازنات السياسية الداخلية، حيث لا يزال حزب الله متمسكًا بموقفه الرافض لأي نقاش في سلاحه خارج إطار الاستراتيجية الدفاعية، وأنه ليس في وارد تسليم السلاح.

التحوّل في رئاسة لجنة ميكانيزم، إذًا، يتجاوز رمزيته، ويُفهم في سياق التحول في طريقة مقاربة واشنطن والمجتمع الدولي للملف اللبناني. فبينما يتصاعد التوتر على الحدود الجنوبية، يتعزز اتجاه دولي لوضع ملف سلاح الحزب كأولوية غير قابلة للتأجيل، لا سيما أن الملف بات يتقاطع مع النزاع الإقليمي الأوسع، ومع تعثر التفاهمات الأميركية-الإيرانية التي كانت توفر سابقًا مظلّة غير مباشرة لتجنب الانفجار في لبنان. وإذا كان المشهد الإقليمي مشبعًا بالألغام، من اليمن إلى العراق وغزة، فإن لبنان يندرج اليوم ضمن هذه الخريطة السياسية المفتوحة على احتمالات التصعيد أو التسوية، وفقًا لقدرة الداخل على التفاعل مع الخارج.

تأسيساً على ذلك، لا يمكن اعتبار المرحلة الراهنة مجرد استمرار لما سبق، بل هي مفصلية في تحديد مصير الدولة نفسها. فالمؤسسة العسكرية وحدها لا تكفي لضبط التوازنات إذا لم تُرفد بقرار سياسي جامع. كما أن الرهانات على الحوار الداخلي تظل هشّة في ظل غياب تصور وطني مشترك في أولويات السيادة ومفهوم الدولة. وتاليا، لا تحتمل اللحظة الراهنة الحلول الرمادية. فإما إعادة إنتاج توازن سياسي يتيح للدولة الإمساك بكامل أدوات القرار السيادي، أو الاستمرار في إدارة التعقيد بوسائل موقتة، تُكسب الوقت لكنها لا تعالج الجوهر. وهذا ما يضع القوى السياسية اللبنانية أمام مسؤولية استثنائية في قراءة المرحلة وموازنة الضغوط الخارجية بالمصالح الوطنية الحقيقية، لا الفئوية.

اترك تعليق