نقاش هادئ مع كريم سعَيد في نظام “الحاكم الأوحد”

حوّل حاكم مصرف لبنان كريم سعَيد النقاش إلى مكانٍ آخر، من البحث في حجم الخسائر ومن يتحمّلها، إلى نقاشٍ في النموذج الرقابيّ ورسم خطوط التماسّ بين صلاحيّات مصرف لبنان والهيئة المصرفية العليا ولجنة الرقابة على المصارف، وهو نقاشٌ لا بدّ منه، لكن يُخشى أن ينحو منحى المحاصصة بين الطوائف على الطريقة اللبنانية المقيتة، ربطاً بالانتماء الطائفي لكلّ من الحاكم ورئيس لجنة الرقابة على المصارف.

كانت مطالعة سعَيد المطوّلة أمام لجنة المال والموازنة في شأن مشروع قانون إعادة هيكلة المصارف أشبه بحقنة مهدّئة. بعدها أحيل المشروع إلى لجنة فرعية، وأخذت المناقشات منحى بطيئاً، قد يبرّره الطابع التقنيّ، وقد يكون تعبيراً عن عمق الخلافات على فلسفته إلى الحدّ الذي يحول دون إنضاجه في وقت قريب.

يحمل مشروع القانون في جوهره تغييراً أساسيّاً في تشكيل الهيئة المصرفية العليا ودورها، بحيث تصبح شخصيّة شبه مستقلّة عن مصرف لبنان تُناط بها قرارات تقويم المصارف وحلّها أو دمجها. وينعكس ذلك في تخفيض حجم تمثيل مصرف لبنان فيها، بحيث تتكوّن من حاكم مصرف لبنان وواحد من نوّابه الأربعة يختاره المجلس المركزيّ، ورئيس لجنة الرقابة على المصارف، ورئيس مؤسّسة ضمان الودائع، وثلاثة خبراء يقترحهم وزراء العدل والماليّة والاقتصاد. وبذلك يكون مصرف لبنان ممثَّلاً في الهيئة بعضوين فقط من أصل سبعة، بدلاً من خمسة أعضاء من أصل ثمانية وفق المسوّدة الأولى. وهذا ما أثار حفيظة سعَيد لأنّه رأى في ذلك انتقاصاً من صلاحيّات مصرف لبنان وحاكميّته.

خطّ دفاعيّ حادّ

جاءت ورقة الحاكم المؤلّفة من 33 صفحة لتُرسّخ خطّاً دفاعياً حادّاً عن موقع المصرف المركزي، وترفض بوضوح أن يجلس الحاكم على قدم المساواة مع رئيس لجنة الرقابة على المصارف في الهيئة المصرفية العليا. يشدّد سعَيد على أنّ الهيئة المصرفية العليا جزء من هيكليّة مصرف لبنان، وأنّ لجنة الرقابة على المصارف دائرة من دوائره، وأنّ رئيس اللجنة يفترض أن يكون تابعاً للحاكم، وأنّ “المساواة” التي ينطوي عليها جلوسهما معاً في الهيئة المصرفية العليا تفكِّك ما يعتبره تراتبيّة مؤسّساتيّة ضرورية لاستقلالية السياسة النقدية. لكن في خلفيّة هذا الموقف إصرار على أن يبقى مصرف لبنان اللاعب الوحيد في كلّ شيء، فهو المشرف والمنظّم والحاكم والمُنفّذ، وهذا ما يحمل مشروع القانون البذور الأولى لكسره.

مصرف لبنان

الواضح أنّ سعَيد يحمل رؤية إصلاحيّة لا غبار عليها، وهو قد باشر بالفعل إعادة الاعتبار للسلطة الرقابية متمثّلة في مصرف لبنان حتّى تحظى بما تحتاج إليه من الهيبة، وتطبّق ما يليق بها من معايير الحوكمة والنزاهة والرقابة الداخلية. فوق ذلك، لديه رؤية إصلاحية متوازنة للخروج من الأزمة، منزّهة عن الأجندات الضيّقة لهذا الطرف أو ذاك. فقد كان لديه من قوّة المنطق ما أنهى به الجدل الفارغ في كون الأزمة نظامية أو لا، وقال ما يجب أن يُقال في شأن المسؤوليّة المشتركة بين الدولة ومصرف لبنان والبنوك في تحمّل الخسائر. وهو في كلّ مهمّته الشائكة يُعبّر عن خشية مشروعة ومفهومة من أن يؤدّي “ردّ الفعل” على تجاوزات المرحلة الماضية إلى تقويض استقلالية المصرف المركزي نفسه أو الانتقاص من سلطانه الرقابيّ.

لكنّ الإشكال الأساسي في ورقة سعَيد هو أنّها تتجاوز المرافعة عن مبدأ الاستقلالية إلى التمسّك بالسلطة الرقابية الكاملة والموسّعة على كلّ ما يتّصل بالنظامين النقدي والمصرفي وأسواق المال حتّى مكافحة غسل الأموال، وهو ما لم يعُد سائداً في أدوار البنوك المركزية في الدول المتقدّمة.

نماذج غربيّة

الغريب أنّ ورقة سعَيد تستند إلى “المقارنة مع الأنظمة والقوانين المتعلّقة بالتنظيم المصرفي في الدول الأجنبية والعربية”، مشيرةً إلى أنّ “استقلالية المصرف المركزي والحاكم هي من صلب القوانين المعتمدة لديها”. ويسرد أمثلة على ذلك من فرنسا وأوروبا والإمارات. وربّما يفوته أنّ استقلالية البنك المركزي في كلّ هذه القوانين والأنظمة لا تعني في أيّ منها، على الإطلاق، الجمع بين كلّ هذه الصلاحيّات التي يجمع بينها مصرف لبنان.

في الاتّحاد الأوروبي، تتمتّع هيئة الحلّ المصرفي الموحّدة (SRB) باستقلالية تامّة عن البنك المركزي الأوروبي (ECB) الذي ينحصر دوره في الإشراف على المصارف الكبرى، بينما تتّخذ هيئة الحلّ المصرفي وحدها قرار حلّ المصارف أو إعادة الهيكلة، ولا يحقّ للبنك المركزي التدخّل حتّى لو أعلن أنّ المصرف “متعثّر”.

في النموذج الفرنسي، يرسم البنك المركزي السياسة النقدية ويحتضن مؤسّسات الرقابة، لكنّ هيئة الرقابة الاحترازية ACPR تملك صلاحيّات تنفيذية مستقلّة، فهي التي تمنح التراخيص وتراقب المصارف وتفرض الغرامات وتوصي بحلّها عند اللزوم. وبذلك لا يتدخّل المصرف المركزي في التنفيذ ولا يحتكر القرار.

في الولايات المتّحدة، لم يزعم مجلس الاحتياطي الفدرالي في أيّ مناسبة أنّ استقلاليّته تعني أنّه الناظم الوحيد للقطاع المصرفي، بل إنّ هيئة تأمين الودائع الفدرالية (FDIC) هي المرجع الحاسم في قرار تصفية أيّ مصرف أو حلّه. ولا يملك مجلس الاحتياطي الفدرالي، بكلّ هيبته، سلطة الفيتو، أو الاعتراض على قرارات FDIC.

الفصل بين من يراقب ومن يحلّ

بات هذا الفصل في الوظائف بين من يراقب ومن يحلّ من الممارسات الراسخة عالميّاً، لتجنيب النظام تضارب المصالح وتعزيز الشفافية وإبقاء البنك المركزي مطلق اليد من أيّ اشتباه بتضارب المصالح. وهذا الفصل ضروريّ في لبنان أكثر من أيّ بلدٍ آخر، لأنّ مصرف لبنان يمثّل في الأزمة المصرفية الخصم والحكم في آن معاً. فهو من جهةٍ يرتدي قبّعة الرقيب، ومن جهةٍ أخرى يرتدي قبّعة العميل الأكبر للبنوك. فموجوداتها لديه تزيد على 83 مليار دولار، أي ما يقارب ضعف موجوداتها لدى القطاع الخاصّ بكامله عشيّة الأزمة، وما يعادل سبعة أضعاف توظيفاتها في اليوروبوندز. فكيف يكون أكبر عميل للمصارف هو المخوّل الوحيد اتّخاذ قرار قتلها أو إبقائها على قيد الحياة؟ هل من تجسيد لتعارض المصالح أكبر من هذا؟

فوق ذلك، يحتاج النظام الرقابي اللبناني إلى ضمان درجةٍ أعلى من الاستقلالية والحوكمة فيها، واستعادة الضوابط والتوازنات(checks and balances) في المنظومة الرقابية، بعد عقودٍ من الهيمنة المطلقة لحاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة على هذه المنظومة بكلّ عناصرها، من المصرف المركزي إلى المجلس المركزي لمصرف لبنان، إلى لجنة الرقابة على المصارف والهيئة المصرفيّة العليا.

هيئة هجينة منقوصة الشّخصيّة!

مشكلة مشروع القانون الذي يناقَش في مجلس النوّاب ليس في الانتقاص من صلاحيّات مصرف لبنان، بل في أنّ الهيئة المصرفية العليا، بالشكل المنصوص عليه، تبدو هيئة هجينة منقوصة الشخصية والاستقلالية، تتنازع السيطرة عليها جهات متعدّدة في الحكومة ومصرف لبنان والمصارف نفسها، بينما المطلوب إنشاء هيئة رقابية مستقلّة لا يرأسها الحاكم، ولا تخضع لتأثيره، ولا لتأثير الحكومة أو المصارف.

يمكن النقاش في ملاءمة الوقت لفتح هذه الورشة التشريعية الكبرى الآن، لكن ليس بالإمكان مناقشة في أنّه ما عاد جائزاً بعد كلّ ما جرى إعادة إنتاج نظام “الحاكم الأوحد”، فذاك منطق لم يعد سائداً في أكثر الأنظمة الرقابية العالمية احتراماً لاستقلاليّة البنوك المركزيّة.

اترك تعليق