لم يكُن نزع سلاح المخيمات مُدرجاً على جدول أعمال العهد الجديد، بصيغة المعجّل المكرّر. ثمّة تطوّر أضيفَ إلى المعادلة الداخلية المهزوزة أصلاً، حتى بدأ «النبش» بالملف، وهو تطوّر كانَ يجب مواكبته لبنانياً، ولا سيما أنه يأتي في لحظة تحوّلات كبيرة في المنطقة. ليتبيّن لاحقاً أن ما يحمله الرئيس الفلسطيني محمود عباس معه إلى بيروت ليسَ أكثر مِن «بِلّة» تضاف إلى الطين اللبناني، وتهدِم ما تبقّى من البنيان الفلسطيني.
ad
حتى ما قبلَ الزيارة بأسابيع معدودة، كانت الدولة اللبنانية بكل أركانها تُدرك بأن الطريق نحو نزع السلاح الفلسطيني في لبنان، طريق وعرة وطويلة. ورغمَ الاعتراضات السياسية التي كانت آخذة في الاتساع، كانَ الجميع مسلّماً بأن وضع حدّ ناجز ونهائي لهذا السلاح، لا يُمكن أن يكون إلا من ضمن تسوية شاملة للقضية الفلسطينية في كل المنطقة، بمعزل عن أي كلام عن حصرية السلاح بين السلطات اللبنانية وبسط سيطرتها على كامل أراضيها. لكن وعلى رأي المثل «يا قاعدين يكفيكم شرّ الجايين»، دقّ «سنترال» الدولة اللبنانية فجأة ومن دون أي مقدّمات أو سياقات تمهيدية، ليتبلّغ المعنيون بأن الرئيس الفلسطيني محمود عباس ينوي زيارة لبنان، طالباً الاجتماع مع الرؤساء للبحث في ملفات عدة ربطاً بنتائج الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان.
حينها، لم يكُن أيّ من المسؤولين يدرك خلفية الزيارة، ولا هدف عباس منها، إلى أن بدأ «الشغل» السياسي يطلّ برأسه، وهذه المرة، عبر دور تولّاه نجل الرئيس ياسر عباس، وهو المعروف عنه بتولي «المهام الخاصة» بالسلطة، لكنّه مكلّف بالعديد من المهامّ، ومن ضمنها سابقاً مشاركته في الوفد الفلسطيني، برئاسة رئيس الحكومة محمد مصطفى، الذي التقى القيادة السوريّة الجديدة برئاسة أحمد الشرع في كانون الثاني الماضي، وهي الزيارة التي مهّدت لزيارة الرئيس الفلسطيني لدمشق. وياسر عباس، له قصته اللبنانية، وهو متزوجٌ سيدةً من آل جعفر، وله علاقات شخصية وصداقات، يظهر أنها أيضاً، ملتصقة بـ«شيعة السفارات»، خصوصاً أولئك الذين يدعون في السر والعلن إلى التخلص من المقاومة وسلاحها.
ad
وقبلَ أيام من زيارة والده، وصل ياسر إلى بيروت حيث عقد لقاءات بعيدة عن الأضواء مع شخصيات سياسية وأمنية، روّج أمامها بأن هناك قراراً فلسطينياً بتسليم سلاح المخيمات في لبنان. وتسلّح «الشاب المحب للسلام»، بأن اللاجئين باتوا يضيقون ذرعاً بالعصابات المسلّحة التي توتّر الأمن داخل المخيمات وحتى خارجها، داعياً إلى التخلص منها، متجاهلاً أن هذه العصابات، لو تمّ التدقيق في هويات عناصرها، لَتبيّن أنهم في أغلبهم من الجماعات التي تعيش على موائد سلطة رام الله وأجهزتها الأمنية.
تفاجأ المسؤولون اللبنانيون من درجة الثقة التي تحدّث بها نجل عباس، وما زاد في دهشة المسؤولين في بيروت، أن «الصبي» يتحدّث وكأنّ والده، هو فعلاً الحاكِم بأمر المخيمات، ما دفعهم ذلك إلى طرح عدّة أسئلة عليه، ركّزت في غالبيتها حول قدرة السلطة على إقناع الفصائل الفسلطينية بتسليم سلاحها، وعمّا إذا كان لجماعة «أبو مازن» حضور وثقل كافيان لإنجاز مهمة بهذا الحجم، خصوصاً أن الأجهزة اللبنانية ليست غافلة عن واقع أساسي وهو أن جماعة «أبيه» لا يملكون أكثر من «العتبة». لكنّ نجل «أبو مازن» كانَ مُصراً على أن السلاح الفلسطيني صفحة ستُطوى وسيذهب إلى غير رجعة وبأنهم سيعملون مع الدولة اللبنانية على تحقيق ذلك.
في بيروت، ظهر سريعاً، أنه وباستثناء رئيس الحكومة نواف سلام الذي «أكلته» الحماسة، تصرّف كل المسؤولين الرسميين، السياسيين والأمنيين والإداريين، بدرجة عالية من التوجّس حيال ما حمله ابن حاكم مقاطعة رام الله، وإن كان كثيرون أقرّوا بأن الفكرة دغدغت رغباتهم.
ad
لكن، وبمعزل عن هرطقات ياسر ومنهجيته العوجاء، إلا أن المشروع جاء في لحظة تستقتل فيها الدولة اللبنانية لتقديم «إنجاز» لأطراف الوصاية الأميركية – الخليجية، وبينهم من يريد أن يؤمّن الإنجاز على طبق من ذهب! إلا أن الوقائع التي أحاطت بالزيارة كشفت عن مشكلة بنيوية في الفريق الذي أتى حاملاً العرض، وهي مشكلة تحول دون قيامه على النحو الذي يريده لبنان أو يشتهيه. وأصل هذه المشكلة هو أبو مازن نفسه الذي فقد دوره وحضوره وتأثيره.
ماذا سبق ورافق الزيارة؟
«الأخبار» أجرت سلسلة من اللقاءات والاتصالات مع معظم الذين انخرطوا في ملف زيارة عباس الأخيرة، وأمكن جمع الوقائع الآتية:
أولاً، فتحَ ياسر عباس قناةً خاصة على حسابه مع المسؤولين اللبنانيين، مروّجاً لمشروع غير منسّق مع أيّ من الفصائل الفلسطينية، بما فيها حركة «فتح» نفسها. بل ذهب أبعَد من ذلك، في نسج علاقة وطيدة مع أحد مستشاري رئيس الجمهورية جوزيف عون المنخرط حتى العظم في المشروع الأميركي، وصارَ ينسّق معه موقفاً متطرفاً كادَ يورّط الدولة اللبنانية في مأزق كبير.
وتُرجم هذا التنسيق في محاولتهما إدخال تعديلات على البيان المشترك الذي بُدّل أكثر من مرة قبلَ صدوره، وعمدا إلى إدراج مصطلحات استفزازية، كالكلام عن أن «زمن السلاح قد ولّى إلى غير رجعة» سرعان ما عمِل محيطون بعون على تبديلها والتخفيف من حدّتها حتى توصلوا إلى الصيغة الرسمية التي صدرت، علماً أن هذه المداولات، دفعت بالقصر الجمهوري في حينه إلى طلب عدم عقد مؤتمر صحافي لعباس في بيروت، إدراكاً من قبل بعض المقرّبين من الرئيس عون، أن هناك من يريد توريط لبنان في ما لا يتحمّله الآن.
ad
ثانياً، في الفترة التي قضاها عباس في بيروت واستناداً إلى الاتصالات المكوكية التي حصلت والاجتماعات، تبيّن للمسؤولين اللبنانيين أن ما سبقَ أن نقله «عباس الابن» قبل وصول والده، هو عبارة عن تجارة تشبه من «يبيع السمك في البحر»، وأن عملية نزع السلاح أمر غير متّفق عليه حتى مع المسؤولين في حركة «فتح»، كما لم يحصل أي نقاش حوله مع أي قوة فلسطينية، بما فيها القريبة من رام الله. وتبيّن أن قادة «فتح» عبّروا عن اعتراضهم على الخطوة، وذلك خلال اجتماعات عقدوها مع «أبو مازن»، ثم كرّروا موقفهم أمام المسؤولين اللبنانيين.
ثالثاً، تبيّن أن السفير الفلسطيني في لبنان أشرف دبور، والمسؤول الفعلي لحركة فتح في لبنان، فتحي أبو العردات، أكّدا مراراً أمام الجانب اللبناني، أن أقصى ما يُمكن القيام به من قبل سلطة رام الله أو منظمة التحرير، هو تنظيم هذا السلاح وعدم السماح باستخدامه لتوريط لبنان في حرب. وتقول مصادر مطّلعة إنهم اصطدموا بـ«ياسر» في أحد الاجتماعات التي حضرها أبو مازن وحصلت «عركة» كبيرة رفض دبور على إثرها حضور الاجتماع الثاني الذي عقدته اللجنة المشتركة لمتابعة أوضاع المخيمات الفلسطينية في لبنان.
رابعاً، خلال الاجتماعات التي عُقدت، أكّد الجانب اللبناني للمسؤولين الفلسطينيين، أن لبنان لن يتخذ مساراً صدامياً، وأن الجيش اللبناني لن يدخل إلى المخيمات لينزع منها السلاح بالقوة، وأن على حامل المبادرة (عباس أو نجله أو جماعته) أن ينسّق مع باقي الفصائل الفلسطينية ويتفق معها على ذلك، وحين يتمّ جمع الأسلحة، يسلّمها الفلسطينيون أنفسهم للجيش اللبناني. لكن لم يظهر على الطرف الفلسطيني أنه قادر على توفير هذا التوافق، مع ذلك تورّط الجميع في وضع جدول زمني لبدء تسليم السلاح في منتصف شهر حزيران.
خامساً، تبيّن أن أكبر إنجاز لعباس، تمثّل في تأجيج الخلافات بين الأطراف الفلسطينية، وتبيّن للدولة أن القرار الذي حمله عباس وابنه اتُّخذ دون تشاور فلسطيني – فلسطيني، ما يجعل العملية كلها غير قابلة للتطبيق في المدى المنظور. وأبدى المسؤولون في لبنان، خشيتهم من اأ ينتهي الأمر إلى عمل فولكلوري يضرّ لاحقاً بسمعة لبنان.
سادساً، أدّت الزيارة إلى طرح أسئلة من جميع الفصائل الفلسطينية حول المقصود بسلاح المخيمات، فهل المعنيّ هو سلاح الفصائل أم السلاح الفردي، ومن سيتولى جمعها، ومن سيحمي المخيمات ويدير شؤونها، ولا سيما في ظل أوضاع غير مستقرة؟ وهي أسئلة دفعت بالمسؤولين اللبنانيين إلى الاعتقاد بوجود تراجع فلسطيني عن الالتزام، أو اتُّفق عليه نظرياً، لا يبدو قابلاً للتحقّق… فضلاً عن أن نجل «أبو مازن» نفسه صارَ يتهرّب حين يُسأل عن إمكانية التزامه بما تعهّد به.
ad
وكان ملف السلاح الفلسطيني، ضمن جدول أعمال الاجتماع الأمني الذي عُقد أمس في بعبدا برئاسة الرئيس عون وحضور وزير الدفاع الوطني اللواء ميشال منسى، قائد الجيش العماد رودولف هيكل، مدير المخابرات العميد طوني قهوجي والمستشار الأمني والعسكري لرئيس الجمهورية العميد أنطوان منصور. وأُعلن على أثره أن «البحث تطرّق إلى الانقسام الفلسطيني الحاصل وتأثيره على الاتفاق الذي تمّ التوصل إليه مع عباس الأسبوع الماضي».
حمود: سلاح المقاومة لا يعالجه عملاء العدو
أكّد رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المقاومة الشيخ ماهر حمود على موقفه المنتقد لما حمله الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى بيروت. وقد أوضح حمود بعض الأمور المتّصلة بموقفه الذي أطلقه الأسبوع الماضي وبدا فيها قاسياً جدّاً على عباس وقال في خطبة الجمعة أمس:
«أقول لا بأس بذكر ألفاظ نابية، في أوقات حرجة وقضايا ملحة (لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)) (النّساء). على ألّا يتحوّل ذلك إلى أمر يومي يتكرّر، فإن المسلم ليس (بالطعّان ولا اللّعان ولا الفاحش ولا البذيء)، أي من يكرّر ذلك ويصبح عادة عنده، فذلك يصبح أمراً مشيناً.
كما أنني أؤكّد لبعض المعلّقين، أنني لم أتلقَّ في حياتي كلّها توجيهاً من أحد، كبر أم صغر، وكل ما أخطب به أو أكتبه، إنما هو نتيجة قناعاتي واطّلاعي الشخصي. ثم إنّ موضوع تنظيم «سلاح المخيّمات» كما تنظيم سلاح المقاومة، أمر جلل، لا يمكن أن يوكل لمن باع نفسه للعدو الإسرائيلي، وأصبح مستخدماً عنده ينفّذ أوامر الذلّ والهوان.
ad
وإن الجانب السلبي من سلاح المخيّمات، يمكن أن يُحلّ بالحوار والتواصل وليس بالعنف. مع العلم أنه لا ينبغي تصوير سلاح المخيّمات وكأنّه المشكلة الأكبر في لبنان، وأنه اذا ما تمّ ضبطه فإن مشاكل لبنان تصبح محلولة، وكذلك سلاح المقاومة، مع فارق في التفاصيل.
بري «يؤنّب» عباس
علمت «الأخبار» أن اللقاء الذي جمع الرئيس الفلسطيني محمود عباس برئيس مجلس النواب نبيه برّي كانَ عاصفاً. وقد تقصّد الأخير، رفع سقف كلامه في وجه «أبو مازن»، وتحذيره من خطورة اللعب بهذا الملف والاستخفاف بعواقبه، وقال له صراحة: «إن أي خطأ في معالجة ملف بهذه الحساسية قد يؤدي إلى فتنة». وصارح بري «حاكم المقاطعة» بأنه «لا يُمكن المراهنة على الأميركيين ومشروعهم، ودعاه إلى النظر إلى ما يحدث في لبنان حيث وقّعنا اتفاقاً لوقف إطلاق النار برعاية أميركية، ورغم أننا ملتزمون به لا يزال العدو يعتدي على لبنان يومياً، ولا يفعل الأميركيون شيئاً لمنعه من ذلك»، لافتاً نظر ضيفه إلى «أن الجيش اللبناني أمامه مهام كبيرة، ولا يمكن دفعه للتورط في مشكلة من هذا النوع».
وكانت مصادر بري أكّدت للجهات الفلسطينية المعنية، أن رئيس المجلس الذي يتصرف كـ«ضامن للفلسطينيين» في لبنان، سبق أن عبّر عن امتعاضه من قيام عناصر فلسطينيين بإطلاق صواريخ من الأراضي اللبنانية في خرق لاتفاق وقف إطلاق النار، وأنه قال هذا الكلام مباشرة لرئيس حركة حماس في الخارج خالد مشعل، الذي أكّد لبري يومها، أن من قام بالأمر فعل ذلك من تلقاء نفسه، وأن الحركة ترفع الغطاء عنه.
ad
صراع فتحاوي – فتحاوي
تبيّن أن النتيجة الأبرز التي حقّقتها زيارة عباس، هي تفاقم الخلافات بين مسؤولي «فتح»، حتى إن السفير دبور حاول عقد لقاء في السفارة قبل يومين لمناقشة الملف، لكنّ الكثير من الكوادر تغيّبوا، كما أعلن أبو العردات أنه لا يريد المشاركة في أي اجتماع، وهو يلازم منزله ولم يعد يرد على الهاتف، وهو أبلغ أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير عزام الأحمد (يصل غداً إلى بيروت لعقد اجتماع لهيئة العمل الوطني) أنه «غير مطّلع على ما جرى الاتفاق عليه مع الدولة اللبنانية في اجتماعات اللجنة، وبالتالي لا يملك أيّ معطيات لمناقشتها مع أحد».
وقد علّقت مصادر في حركة «فتح» على زيارة عباس بالقول إن «البيان المشترك الذي صدر عن الجانبين كان النقطة الإيجابية الوحيدة، ويُعتبر فرصة تاريخية للوصول إلى أرضية للتفاهم»، لكن المشكلة تكمن في أن «الزيارة خلّفت الكثير من المشاكل الفلسطينية وزادت من الانقسامات القائمة داخل «فتح» وبين المنظمة والتحالف، وأصبحنا اليوم بحاجة إلى ترتيب البيت الداخلي حتى نستطيع أن نفي بالتزاماتنا التي تعهّدنا بها للدولة اللبنانية». وقالت المصادر: «إن التواريخ التي حُددت لتسليم السلاح، ولّدت إرباكاً عند الجميع، وهناك اليوم محاولات جدية لتلافي بعض المشاكل بهدف الوصول إلى موقف فلسطيني موحّد نذهب به إلى الدولة، علماً أن الوقت ضيق جداً، لكنّنا ملزمون بخطوة حتى لا تكون زيارة عباس فولكلورية».