السجون على صفيح ساخن: هل ينتظر لبنان انفجاراً من الداخل؟

على سيرتهم الدائمة، لا يكفّ نزلاء السّجون اللّبنانيّة وذووهم عن مطالبة الجهات المولَجة بحلحلة أوضاع السّجون والمساجين على حدٍّ سواء. وإذ لا يعدو هذا الملفّ كونه انعكاسًا مباشرًا لأزمة الأمن والقضاء المشلولَيْن، فإنّ آلاف النزلاء يدفعون اليوم فاتورة سنوات من شلّل دولتهم، سواء في صحتهم وكرامتهم الإنسانيّة، أو أحيانًا في حياتهم الّتي باتت رخيصةً أسوةً بحياة كلّ مقيم في لبنان. وبينما تعلو الأصوات الحقوقيّة، فضلًا عن الرأي العام، في وجه سلطتي الأمن والقضاء اللبنانيّتين للضغط عليهما لوضع خطّة إنقاذيّة لنزلاء السّجون المكتظّة بنسبة إشغال تتجاوز 380 في المئة، والغاصّة بالأمراض الجرثوميّة والجلديّة المنتشرة، يُسهم انعدام الطبابة والاستشفاء وسوء التغذية أيضًا في مضاعفة عدد المرضى فضلًا عن الوفيات. وتستهدف هذه المطالبة أيضًا تخفيف الضغط الجسيم عن كاهل القوى الأمنيّة وحَثّ القضاء على المباشرة في تطبيق العدالة.

فاجعتان في أقلّ من أربع وعشرين ساعة
في مساء الرابع من تمّوز الجاري، صُدمت إدارة سجن روميّة المركزيّ وأهالي السّجناء بخبر العثور على السّجين محمد فواز الأشرف (المعروف بمحمد مالك، سوريّ الجنسيّة، 40 عامًا) مشنوقًا داخل حمّام السّجن. الأشرف موقوفٌ منذ سنتين ونصف من دون أن تُعقد له جلسة محاكمة واحدة. وتؤكّد مصادر أمنيّة أنّها “حالة انتحار” خلص إليها السجين بعد معاناةٍ مع مرض الصدفيّة الجلديّة الذي تفشّى في جسده مسبّبًا آلامًا جسديّة ونفسيّة حادّة. وبرغم شرائه العلاج على نفقته من “دكّان السجن”، امتنعت الإدارة، وفق إفادات السجناء، عن إدخال الدواء أو تسهيل وصوله إليه، ما أدّى إلى تدهور إضافيّ في حالته.
وعاش الأشرف، وفق ما يشير مقرّبون منه داخل روميّة، في عزلةٍ شبه تامّة؛ إذ إنّه يقضي عقوبته من دون أقارب في لبنان، وزوجته أجنبيّة (من جنسيّة أفريقيّة) لا تستطيع زيارته بانتظام، كما أنّه تعرّض للتنمّر داخل السجن بسبب شكله وجلده الذي استحال مشوَّهًا بفعل الصدفيّة التي فتكت به.
ولم تمضِ ساعات حتى تناقلت وسائل الإعلام أخبارًا عن انتحار السّجين علي عواضة، وهو رجل مسنّ من البقاع أمضى نحو ثلاثين عامًا خلف القضبان. الرواية الأوليّة تحدّثت عن حقنه نفسه بـ”إبرة هواء” في الوريد ما أدّى إلى وفاته، غير أنّ قوى الأمن الداخليّ سارعت إلى نفي خبر الوفاة، مؤكّدةً نقله إلى المستشفى نتيجة مضاعفات تنفّسيّة مزمنة. ولئن بقي مصير عواضة غامضًا – إذ تفيد معلومات استقتها “المدن” بأنّه ما زال طريح العناية المركّزة – فإنّ تضارب البيانات يعمّق شكوك الأهالي ويزيد منسوب التوتّر بين النزلاء.

بين بيانات النفي وصراخ الأهالي: معركة الرواية
في المقابل، أصدرت المديريّة العامّة لقوى الأمن الداخلي بيانًا تنفي فيه “خبر انتحار علي عواضة” وتؤكّد توفّر علاجه “بصورة دوريّة”. وناشدت “توخّي الدقّة في نقل الأخبار”. لكنّ لجنة أهالي السّجناء ردّت في بيان في 5 تمّوز 2025 مشدّدةً على “شفافيّة النشر”، ومذكّرةً بأنّ “الكثير من الوفيات لو لم تُنشر لما علم الرأي العام بحجم الكارثة”. سألت اللجنة عن سبب امتناع قوى الأمن عن ذكر وفاة محمد مالك، وتساءلت عمّا إذا كان الأمر “انتحارًا أم جريمة قتل”، داعيةً إلى “تحقيق فوري وجدّي”.
من جهته، وصف المحامي محمد صبلوح، مدير “مركز سيدار للدراسات القانونيّة”، بيانات إدارة السجن بأنّها “مغايرة للحقيقة، تُهدر حقوق السجناء وتمنع صرخاتهم من الوصول”. ودعا وزيري الداخليّة والعدل إلى “المكوث ليلة في روميّة” وفتح الأبواب أمام الإعلام والمنظّمات الحقوقيّة “لتسليط الضوء على المأساة”.
كذلك حذّرت الناشطة رائدة الصلح، عضو لجنة أهالي السجناء، من تفاقم العدوى الجلديّة في الصيف، معتبرةً أنّ “الوضع الصحّي أوصل أحد السجناء إلى الانتحار”. وحضّت على “حلول عمليّة وإجراءات قضائيّة” تنقذ من تبقّى خلف القضبان.

ولعلّ أحد أوجه الأزمة أنّ رواية الجهات الرسميّة كثيرًا ما تُناقَض بشهادات السجّناء وأسرهم. ففي حين تؤكّد قوى الأمن أنّ “علي عواضة لم ينتحر بل يتعالج”، تسأل لجنة الأهالي: لماذا “لم يرجع إلى زنزانته”؟ ولماذا غاب ذكر “انتحار محمد مالك” عن البيان؟ ويتّهم الحقوقيّون إدارة السجن بتعتيمٍ إعلامي مزدوج: من جهة، منع الكاميرات والوصول إلى الزنازين؛ ومن جهة أخرى، إصدار بيانات مقتضبة تستبق أيّ تحقيق معمّق. ويلقي هذا التضارب بظلاله على الشفافيّة في التحقيقات. فهل استُنفدت كلّ الفرضيّات الجنائيّة في حادثة شنق الأشرف؟ وهل حُقِّقت إمكانيّة “جريمة قتل”؟ يُطالب الأهالي بمنح دور أكبر للمنظّمات المستقلّة، وتمكين محامي الدفاع من الحصول على سجلات طبيّة كاملة.

الاكتظاظ هو أمّ المشاكل
يُقِرّ مصدر أمنيّ تحدّثت إليه “المدن” بأنّ “الاكتظاظ هو أمّ المشكلات، فهو يولّد كلّ الأزمات الأخرى؛ السجين وعنصر الأمن ضحيّتان معًا”. يؤكّد المصدر أنّ النزلاء يشكون غياب الأطبّاء في الأقسام: “هناك أطبّاء على مدار الساعة لكن عددهم ضئيل، والمخصّصات الماليّة لا تكفي لجذب مزيد منهم”. ويضيف: “أعدنا فتح محكمة روميّة بدعمٍ من وزارتي العدل والداخليّة لتسريع المحاكمات. قدّمنا تسهيلات للمحامين، لكنّ حلّ الاكتظاظ بيد القضاء”. إلّا أنّه يحمّل الموقوفين الإسلاميين مسؤوليّة “معظم التحرّكات”، في حين يرى معلّقون حقوقيّون أنّ المشكلة بنيويّة وليست محصورة في فئة بعينها.
في مقابل ذلك، يكشف سجناء روميّة أنّ الأزمة الصحيّة بلغت ذروة غير مسبوقة في الأشهر الأخيرة مع انتشار الكوليرا والتيفوئيد والتهابات جلديّة واسعة، وسط انقطاع شبه دائم للكهرباء. وإذ تمتنع مستشفيات حكوميّة وخاصّة عن استقبال المرضى من النزلاء بحجّة عدم الدفع، تُلقي مصلحة الصحّة في قوى الأمن بالعبء على عائلات السجناء.
وفي تقرير لمنظمة العفو الدوليّة، ورد أنّ على وزارة الصحّة “فرض تدابير تأديبيّة على المستشفيات التي ترفض بصورة غير قانونيّة معالجة النزلاء”. فالقانون اللبناني يلقي بالمسؤوليّة الصحيّة كاملة على عاتق وزارة الداخليّة تجاه كلّ من تحتجزهم.
فضلًا عن الأمراض، يشتكي السجناء من سوء التغذية ونوعيّة الطعام والمياه الملوّثة، ما يضاعف عدد المرضى ويُسرّع وتيرة الوفيات. وفي غياب أجهزة تهوئة كافية، يصبح الصيف موسمًا للعدوى الانتقاليّة، في حين تعجز الإدارة عن تأمين مواد التنظيف والأدوية الأساسيّة.

القصور القضائيّ وعقدة الاكتظاظ
يُجمع معظم المراقبين على أنّ مفتاح الأزمة قضائي بالدرجة الأولى. فالقسم الأكبر من النزلاء موقوفون احتياطيًّا من دون محاكمات لسنوات، وبعضهم – مثل محمد مالك – ينتظر أولى جلساته منذ أكثر من عامين. خطوة إعادة فتح “محكمة روميّة” قد تخفّف الضغط إن جرى تفعيلها بجدّيّة، لكنّها تبقى مجرّد حلّ لوجستي ما لم يُرفق بعزم قضائي على تسريع التحقيقات وإصدار الأحكام أو إطلاق السراح عند انتفاء المبرّر القانوني للتوقيف.
تتجدّد المطالبات بخفض السنة السجنيّة إلى تسعة أشهر، أو إقرار عفو عام يستثني الجرائم الخطرة. إلّا أنّ الجمود السياسي والانقسام حول ملفات الحقوق والعدالة يُفرغان تلك الاقتراحات من زخمها. وفي الأثناء، تتكرّر التحرّكات الاحتجاجيّة داخل السجون، لتعيد التذكير، بنَفَس مأساوي، بأنّ “الانفجار” قابل للحدوث في أيّ لحظة.

كلفة الإهمال على الدولة والمجتمع
والحال، إنّ الأزمة الإنسانيّة داخل السجون ليست شأنًا “اختياريًّا” في جدول أولويّات الدولة، ولا ترفًا حقوقيًّا يمكن تأجيله. فحين يفقد السجين ثقته بالقضاء وبحقّه في العلاج، تنفجر الأوضاع في الداخل وتنعكس اضطرابًا خارج القضبان. كما أنّ موت أي سجين نتيجة الإهمال أو الانتحار يمثّل وصمة أخلاقيّة على جبين المؤسّسات التي يفترض بها أن تحمي حياة الأشخاص المحتجزين لديها.
وفي الوقت الذي ينهار فيه ما تبقّى من البنية التحتيّة للدولة، يصبح إنقاذ السجون امتحانًا لقدرة لبنان على احترام التزاماته الدوليّة وصون كرامة الإنسان. فالسجين – مهما كانت تهمته – لم يُحكَم بالموت أو الذلّ، بل جُرّد من حريّته لمدّة محدّدة وفق القانون. وعلى الدولة أن توفّر له الحدّ الأدنى من الرعاية والرصد القضائي العادل.
إنّ فاجعة محمد الأشرف، وغموض مصير علي عواضة، ونداءات الأهالي المتكرّرة، جميعها مؤشّرات إلى ساعة أخيرة دقّت أبواب المسؤولين. والمطلوب اليوم أكثر من بيانات نفي؛ المطلوب إرادة سياسيّة وقضائيّة لإنهاء مسلسل الانهيار قبل أن نجد أنفسنا أمام انهيار أكبر يطاول السجناء وعناصر الأمن على السواء، ويُنذر بانفلات لا يلمه اعتذار متأخّر.

اترك تعليق