بغضّ النظر عمّا ستحمله زيارة الموفد الأميركي توماس بارّاك المرتقبة للبنان، بدأت “أزمة السلاح” المُطوّقة بضغوط خارجية كبيرة، والمُحمّلة بدفاتر شروط قاسية، “تتلَبْنن” بقوّة دفع عاملين داخليّين داهمَين: معركة تعديل قانون الانتخاب، والانتخابات النيابية، ربطاً بالسلاح نفسه. هذا ما قد يُفسّر اللهجة العالية التي بات سمير جعجع يُخاطِب بها رئيس الجمهورية.
لدى سؤاله، في مقابلة تلفزيونية خلال زيارته الأخيرة لبنان، إن كان الوضع قد يبقى على حاله حتّى الانتخابات النيابية المقبلة في أيّار، قال توم بارّاك: “إذا أراد لبنان الاستمرار في ركل العلبة على الطريق، يُمكنه ذلك، لكنّنا لن نكون هنا في أيّار المقبل، نناقش الموضوع نفسه”.
ضمن تصريحاته، دعّم الموفد الأميركي موقفه بجملة لافتة، تحمل قدراً عالياً من فَهْم “النَمَطيّة” اللبنانية في اللعبة السياسية: “أنا مُشجَّع من ردود أفعالهم (أركان السلطة) حتّى الآن، لكن أنا ذكيّ كفاية لأعرف أنّهم يلعبون طاولة الزهر، فيما أنا ألعب الشطرنج”.
تحدّث بارّاك بصراحة عن “خوف البعض من الحرب الأهلية، ومن الضغط كثيراً، ولديكم نظام طائفي يتطلّب الإجماع”، مع ذلك أعاد تثبيت المقاربة الأميركية: “نريد اتّفاقاً حقيقيّاً، جداول زمنية حقيقية، نزع سلاح حقيقيّاً”.
لا تهديد
قبل زيارة بارّاك، كما بعدها، تؤكّد مصادر رسمية لـ”أساس” أنّ الموفد الأميركي “لم يتحدّث بنفَس تهديديّ أو وَضَع جداول زمنية داهمة. فقط أراد القول، ببساطة، إنّه إذا “لحّقتم” حالكم فستحظون بالاهتمام الكامل، العربي والدولي، وإلّا فالاهتمام سيُجيّر إلى مكان آخر. المطلوب حسم ملفّ السلاح، ترتيب العلاقة مع “سوريا الشرع” وتوفير مستلزمات النهوض الاقتصادي والإصلاحات المرفقة به”.
بعكس موقف الدولة الرسمي، ذهب بعض نوّاب “القوّات” إلى حدّ تأكيد أنّ “لبنان لم يلتزم اتّفاق وقف إطلاق النار”
أبعد من ذلك، يؤكّد مطّلعون أنّ “إشارة بارّاك إلى استحقاق أيّار لم تأتِ عن عبث، فسوريا ذاهبة إلى تثبيت دعائم مسار السلام مع إسرائيل، وستبدأ مؤشّرات ذلك قبل أيّار المقبل. لذلك المطلوب من لبنان أن يُقدّم شيئاً ملموساً في مسألة السلاح قبل هذا الاستحقاق، وأمّا السلام فله مقاربات مغايرة”.
شدّ حبال
تحت هذا السقف قد تطول جولات “الأخذ والردّ”، وتبادل الأوراق، وفرض المحاذير، بين لبنان والخارج، من دون قدرة أيّ طرف حتّى الآن على حسم المُهلة الزمنية التي ستبقى متاحة للتفاوض “على الرايق”.
جعجع
لكن منذ الآن، وبموازاة هذا المشهد، بدأ يرتفع منسوب شدّ الحبال الداخلي، تحديداً بين طرفين أساسيَّين، هما “القوّات” و”الحزب”، اللذان للمفارقة سيخوضان المعركة الانتخابية تحت شعار واحد: “السلاح”!
يقول مصدر مطّلع على خفايا المطبخ السياسي: “بدأت اللعبة الانتخابية تتحكّم بأداء القوى السياسية كافّة. لكن يظهر هذا الأمر بشكل بارز لدى “الحزب” و”القوّات”، طرفَي النقيض في هذه المرحلة. فـ”الحزب” يعتبر أنّ تقديمه أيّ بادرة أو خطوة سيرتدّ على صلابة موقفه أمام جمهوره، وقد تكون له تأثيرات مباشرة في صناديق الاقتراع، وربّما في خلفيّة تفكيره أنّ أيّ “درون” سيسلّمها ستُخسّره مقعداً نيابياً. و”القوات” تستثمر “على الآخر” في مسألة السلاح، وتخويف المسيحيين منه، وتُهاجم الرئاسة الأولى، وجبران باسيل، ضمن سياق ما تعتبر أنّه الفرصة الذهبية لتكريس زعامة سمير جعجع المسيحيّة”.
غضب معراب
بين عين التينة وبعبدا كان هناك رصد لـ”غضب معراب” من المقاربة الدبلوماسية التي عرضها توم بارّاك، إلى حدّ اتّهام الرؤساء الثلاثة بإنعاش “حكم الترويكا عبر استعادة بدعة نظام الأسد”، ووصف الردّ اللبناني الثلاثي على بارّاك بـ”غير الدستوري، وغير القانوني، وغير الرسمي”.
بمطلق الأحوال، ثمّة مناخ مسيحي عامّ اليوم يعتبر أنّ جعجع لم يتعلم من دروس الماضي والطائف
بعكس موقف الدولة الرسمي، ذهب بعض نوّاب “القوّات” إلى حدّ تأكيد أنّ “لبنان لم يلتزم اتّفاق وقف إطلاق النار”!
داخل المقلب المسيحي، من يتّهم جعجع بمصادرة إحدى الصلاحيّات القليلة الباقية لدى رئيس الجمهورية بالتفاوض وعقد الاتّفاقات والمعاهدات (المادّة 52 من الدستور) بالاتّفاق مع رئيس الحكومة، بتقديمه عليها المادّة 65 من الدستور التي تنصّ على “إناطة السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء الذي يضع السياسة العامّة للدولة”. وبهذا السياق الدستوري تطلب الحكومة من الرئيس مباشرة التفاوض.
يذهب بعيداً في معركة تعديل قانون الانتخاب حين يصف بـ”أكبر جريمة إقرارَ قانون الستّة مقاعد (للاغتراب)، في ظلّ انقسام مسيحي حول الأمر ومسيحي – إسلامي قد يقود إلى انفجار اللغم داخل الحكومة ومجلس النوّاب”.
بين جعجع وباسيل
من هنا، يظهر التمايز بين سمير جعجع وجبران باسيل في مقاربتهما لأداء رئيس الجمهورية حيال السلاح. من جهة جعجع هناك اتّهام واضح لعون بالتقصير والتردّد، و”فوبيا” بعبدا غير المفهومة من الحرب الأهلية، “ولو اتّخذت الدولة قرارها بحسم ووعي، لكانت الأمور سلكت مساراً مختلفاً”.
قال جعجع بوضوح خلال مقابلة تلفزيونية: “خطّة العمل واضحة لسحب السلاح. وهي التزام قرار الحكومة عند اتّخاذه، ويتمّ وضع أيّ شخص يخالف قرارات الدولة بالسجن”. أضاف: “علينا دفع الأمور إلى حيث يجب أن تكون حتّى يكون الرئيس السياديّ سياديّاً بحقّ”، وهو ما فُسّر بوضوح بأنّه اتّهام من جعجع لعون بسوء إدارة “أولويّات السيادة”.
من جهة باسيل، هناك تفهّم كامل للمقاربة الرئاسية لمسألة السلاح وثناء عليها، وتأكيد دعم العهد، في مقابل تخوّف من سياسة الإقصاء التي تطال بعض “جماعاته” وحصول تعيينات من دون معايير واضحة ومقنعة. هنا تحديداً، من ضمن الدائرة المقرّبة من بعبدا، من يُذكّر باسيل بأنّ أحمد عويدات الذي خاض باسيل معركته شخصيّاً، إبّان ولاية ميشال عون، ضدّ عبدالمنعم يوسف، قد تمّ تعيينه في مجلس الوزراء مديراً عامّاً لهيئة “أوجيرو”.
“القوّات” والحزب يدخلان “معركة أيّار” تحت عنوان واحد: السلاح!
جعجع الطّائف
بمطلق الأحوال، ثمّة مناخ مسيحي عامّ اليوم يعتبر أنّ جعجع لم يتعلم من دروس الماضي والطائف.
تقول شخصية مسيحية مُخضرَمة: “يتصرّف رئيس حزب القوات راهناً بعقليّة “جعجع الطّائف”. سقط ميشال عون، فتوهّم بأنّ خياره انتصر، وبأنّه سيكون الممثّل الحصري للمسيحيين في السلطة الجديدة. اليوم، سقط “الحزب”، وسقطت سوريا، وكُرّس اتّفاق 27 تشرين الثاني، فتوهّم مجدّداً ذلك. بالمحطّتين، لم يكن هو المنتصر. في الأولى كان الانتصار لحافظ الأسد، والثانية هي انتصار لا يزال يتأرجح بين إسرائيل وواشنطن ودول الخليج، إلى حين انتهاء ترتيبات المنطقة. يبدو فعلاً أنّ جعجع لا يتفهّم أهميّة ميزان الذهب الذي تحاول من خلاله الدولة الجَمع بين حقّين سياديَّين: الانسحاب الإسرائيلي وحصر السلاح بيد الدولة وحدها، مع محاذرة الوقوع في فخّ الفوضى”.
تضيف: “بتلويح جعجع مجدّداً اليوم بالاستقالة من الحكومة بوجود أربعة وزراء محسوبين عليه، يُكرّر مشهد استقالته من حكومة “الاتّحاد الوطني” الأولى بعد الطائف، بوجود وزيره روجيه ديب، استعداداً لانتخابات 1992. لا أحد يتحدّث عن مصير مشابه لتلك الحقبة، لكن يُفترَض بساكِن معراب أن يُسلّم بأنّ الزعامة الحصرية التي يسعى إليها لا تزال مقوّماتها غير متوافرة حتّى في ظلّ سقوط محور الممانعة”.
اساس ميديا