ثلاث زيارات قام بها توم بارّاك لبيروت، حتّى الآن، قدّم خلالها ورقة إدارته وتسلّم ردّ السلطة اللبنانية، ليعيد الردّ على الردّ قبل أن يتسلّم الردّ على الردّ على الردّ. لهذا ثمّة كثير من الضباب والغموض مع أنّ الدبلوماسي الأميركي الآتي من عالم الأعمال والصفقات لم يبخل على اللبنانيّين والإعلاميّين بالكلام والمواقف و”مشاريع الإيضاحات”. لكنّ كلّ ذلك لم يكن كافياً، ولم يفصل الخيط الأبيض عن الأسود. وبقي الالتباس مقيماً في حيثيّات مصير السلاح، بين انطباع ملؤه الإيجابية وآخر سوداويّ النظرة. فما هي حقيقة الوقائع؟
ad
تتقاطع المعطيات عند خلاصة واحدة: لبنان أمام حائط مسدود. يقولها مرجع سياسي بشكل حاسم، من دون مواربة. كلّ جولات الموفد الأميركي لم تبدّل في الحقيقة المرّة. “الحزب” لم يتراجع في موقفه، ويرى في الورقة الأميركية أمراً بالاستسلام من دون مراعاة لاعتبارات السيادة اللبنانية. ولجلوسه إلى طاولة حوار تنتج استراتيجية دفاعية شروطٌ ومطالب لم تتوافر بعد.
في الواقع، أثارت مواقف توم بارّاك، على كثرتها، وتمايلها بين الودّيّة في استذكاره الوجدانيّ لأصوله اللبنانيّة، وبين قساوة مطالب إدارته وحزمها في تنفيذ لائحة الشروط، جدلاً واسعاً. الأكيد أنّ الرجل، الذي يمتهن عقد الصفقات العابرة للحدود، كاره للفشل وتكبّد الخسائر ويسعى جاهداً إلى تحقيق انتصار، بدليل ركونه إلى أسلوب المقايضات (مزارع شبعا نموذجاً). وهو مستعدّ لأن يقضي معظم وقته في الطائرة ذهاباً وإياباً في سبيل إنجاح مهمّته، مع العلم أنّه لا يضيّع فرصة وجوده في لبنان، من خلال الاستفادة سياحيّاً واجتماعيّاً من الموسم الصيفي، واستعادة بعض أملاك أجداده، كما يقول مطّلعون.
لكنّ ذلك لا يحجب واقعاً مريراً، لمسه بعض المسؤولين، يختزل روحيّة تعاطي الإدارة الأميركية مع ملفّ السلاح، فكلّ محاولات السلطة اللبنانية للمواءمة بين مطالب واشنطن وقدرة لبنان على الالتزام، غير ذات جدوى، ولا تبدّل في المقاربة الأميركية قيد أنملة، على الرغم من الجولات المكّوكيّة للرسائل والردود المتبادلة، بمعنى أنّ الاستفاضة في الصياغات والحوارات الدائرة على هامشها، لم تنجح في تدوير زوايا المطالب الأميركية، بدليل اللهجة الحاسمة التي تسلّح بها بارّاك أمام المسؤولين اللبنانيين، وتحديداً رئيس الجمهوريّة جوزف عون.
ad
هنا تفيد المعلومات أنّ تركيز واشنطن عبر موفدها يشمل مسألتين: السلاح البالستيّ والمسيّرات. ويقول مرجع سياسي إنّه في حال تمّ التوصّل إلى اتّفاق على تسليم البالستي، وهو ليس متوافراً الآن، أي الاتّفاق، فإنّ “الحزب” يرفض بشكل حاسم إقفال مصانع المسيّرات.
في المقابل، يعمل رئيس الجمهورية جوزف عون ورئيس مجلس النوّاب نبيه برّي على خطّين: الأوّل مع “الحزب” لتليين موقفه، والثاني مع واشنطن من خلال بارّاك لشرح الخصوصية اللبنانية والمخاطر الحدودية، جنوباً وشرقاً وشمالاً، وذلك لإقناع الأميركيّين بجدوى إلزام إسرائيل بالانسحاب من النقاط المحتلّة ووقف اعتداءاتها ومنح ضمانات دوليّة تحمي الحدود اللبنانية من كلّ الجهات.
لكنّ المطّلعين على موقف “الحزب” يجزمون أنّ موقفه لا يزال على حاله، وأبلغه إلى كلّ من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النوّاب: الخطوة الأولى يجب أن تأتي من الجهة الإسرائيلية بتحقيق الانسحاب الكامل من النقاط المحتلّة ووقف اعتداءاتها وتحرير الأسرى وإعادة الجثامين، على أن تتولّى الحكومة اللبنانية مسؤوليّة حماية الحدود. ثمّ تتمّ معالجة مسألة السلاح ضمن استراتيجية دفاعية تحمي الحدود بعد أن تنال السلطة اللبنانية الضمانات الدولية اللازمة، على أن يصير النقاش في الاستراتيجية مع رئيس الجمهورية.
ad
يكشف المطّلعون أنّ قراءة الورقة الأميركية في مجلس شورى “الحزب” لم تحتج أكثر من دقائق معدودة ليُسطّر رفض مطلق بإجماع المشاركين. وهو ما يعني أن لا رماديّة في موقف “الحزب” لا بل هو سلبيّ جدّاً يقطع الطريق على أيّ تعاون بناء على الورقة الأميركية.
في هذا السياق، يقول مرجع سياسي إنّ بلوغ الاتّفاق دونه مسار طويل. صحيح أنّ العنوان العريض هو تسليم السلاح، لكنّ لمقاربة “الحزب” لهذا الملفّ جوانب متعدّدة، سيكولوجيّة، سياسيّة، عسكريّة، اقتصاديّة واجتماعيّة.
بالتفصيل يرى المرجع أنّ “الحزب” لن يقبل بتسليم سلاحه قبل معالجة العديد من القضايا:
إقناع جمهوره بعدم جدوى السلاح، الأمر الذي لن يكون إلّا إذا جرى إلزام إسرائيل بالانسحاب ووقف اعتداءاتها وحماية الحدود.
تثبيت الشراكة، التي فرضها عبر الأعراف في السلطة، في الدستور. كأن يتمّ مثلاً تكريس التوقيع الثالث، أو الثلث المعطّل، بحيث لا يضطرّ في كلّ مرّة إلى خوض معركة لاقتناص هذا التوقيع. قد لا يكون التفاوض الحاصل راهناً بلغ هذا الأمر، لكنّه سيبلغه مع الوقت.
تأمين مصير تنظيمه العسكري لجهة ضمان إنشاء شبكات استثمارية تستوعب المقاتلين والحلقة الاجتماعية المحيطة بالحزب والمستفيدة منه في مجالات عمل.
ad
بهذا المعنى، يُفهم أنّ حالة المراوحة هي السائدة، والخوف من ارتفاع منسوب التوتّر العسكري في الجنوب قائم، على الرغم من إصرار الرئيس برّي على إحداث خرق في جدار المفاوضات، لكنّ المعنيّين يرون هذه المحاولات “أرانب من ورق” لن تفي بالمعالجة، لأنّها مرتبطة بضمانات غير متوافرة حتّى الآن.
الأمور متروكة راهناً للاتّصالات الدولية التي يجريها رئيس الجمهورية وللخطّ الحواريّ المفتوح مع “الحزب”، سواء من جهة بعبدا أو من جهة عين التينة… بالتوازي مع رغبة رئيس الجمهورية بالدعوة إلى عقد طاولة حوار موسّعة لمناقشة مسألة السلاح، فيما ينتظر عودة بارّاك إلى بيروت خلال الأيّام القليلة المقبلة.