إنّ أخطر ما يتعرّض له لبنان اليوم، لا ينحصر في احتلال إسرائيل لأجزاء من أرضه، أو السيطرة أمنياً على مقدراته، بل يتعدّى ذلك إلى التنسيق المتنامي بينها وبين دمشق، والذي ربما يشمل عدداً من المسائل المتعلقة بلبنان، بدءاً بترسيم الحدود في مزارع شبعا وسواها براً وبحراً، مروراً بالترتيبات المتفق عليها لقطع الطريق على إيران نهائياً، وانتهاء بمسائل قد لا تخطر اليوم في بال اللبنانيين.
في شكل متسارع، تستعيد دمشق بقيادة أحمد الشرع حضورها الإقليمي والدولي، عبر مثلث قوي: المملكة العربية السعودية- إسرائيل- الولايات المتحدة. وفيما ارتفع مستوى التفاوض السياسي بين سوريا وإسرائيل، لينعقد لقاء باريس بين وزير الخارجية السوري اسعد الشيباني ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر، دفعت المملكة العربية السعودية باستثمار ناهز الـ7 مليارات دولار في مشروع إعادة إعمار سوريا، ما يمثل إشارة قوية إلى تحول استراتيجي عميق.
السعوديون والإسرائيليون يتقاطعون على الاستفادة من سقوط نظام الأسد، لأنّ له الفضل في إضعاف نفوذ إيران الإقليمي، بقطع ممرها البري نحو لبنان والمتوسط وحدود إسرائيل الشمالية. ويحظى الانفتاح السعودي والإسرائيلي على دمشق بمباركة وتشجيع أميركيين، عبّر عنهما الموفد الرئاسي الأميركي توم برّاك في زياراته لدمشق.
وسيتكفّل الدعم المشترك السعودي ـ الإسرائيلي ـ الأميركي بدمج سوريا الجديدة تماماً في الصفين العربي والإقليمي، وتثبيتها كثقل موازٍ لنفوذ إيران. ويمكن الاعتقاد بأنّ إنجاز معاهدة سلام كاملة بين سوريا وإسرائيل سيكون وارداً في المدى الطويل، لكن التوصل إلى «اتفاق تنسيق» رسمي أو «إطار عمل لخفض التصعيد» ربما يتمّ فوراً. ومن المرجح أن يشمل التنسيق تعاوناً أمنياً بين الجانبين، خصوصاً في ما يتعلق بالحدود المشتركة واحتواء حلفاء إيران.
وتريد واشنطن استثمار هذه الخطوات في سياق استراتيجية أوسع لإعادة تشكيل المنطقة. فالحكومة السورية الجديدة يمكن أن تصبح شريكاً حاسماً في كبح نفوذ إيران، وربما تتحول دمشق قاعدة للمصالح الأميركية، وتضطلع بدور مهمّ في الأمن الإقليمي وجهود ما يسمّى «مكافحة الإرهاب».
ad
ومع تلقّيها هذا الدعم الخارجي، ستتمكن حكومة الشرع من تثبيت الاستقرار الداخلي. أي أن تتكفّل سوريا بإحداث تغيير جذري في ميزان القوى الشرق أوسطي، له تأثيراته العميقة على دول الإقليم، ولاسيما منها لبنان المرشح لزلزال قد يقلب المعادلات الداخلية ويفكك بنيته السياسية الحالية.
فـ«الجسر الإيراني» عبر سوريا يمثل لـ«حزب الله» شريان الحياة الاستراتيجي، ليس فقط لتلقّي الدعم العسكري واللوجستي، بل أيضاً للحصول على الشرعية الإقليمية كجزء من «محور المقاومة». وبقطع هذا الجسر، سيكون «الحزب» معزولاً في شكل غير مسبوق، بعدما كان نظام الأسد يوفر له العمق الاستراتيجي والسياسي، ويؤمّن لحركته المجال الحيوي. وباتت سوريا الجديدة عامل ضغط إضافي على «الحزب». ومع انخراط السعودية في إعادة إعمارها، من المرجح أنّ لبنان سيجد نفسه في مواجهة عزلة عربية وإقليمية ودولية متزايدة.
وقد جاءت تصريحات برّاك بعودة لبنان جزءاً صغيراً من بلاد الشام الواسعة، أكبر من تهديد ديبلوماسي. فالأميركيون وحلفاؤهم فقدوا الصبر على لبنان، وباتوا يعتبرون واقعه القائم عائقاً أمام استراتيجيتهم الإقليمية. ولذلك، سيضعونه أمام خيارين: إما أن يكون دولة مستقرة ومتحالفة معهم، وإما أن يواجه مخاطر قد تصبح وجودية.
ad
وبات مؤكّداً أنّ المساعدات الاقتصادية والاستثمارية التي يحتاج إليها لبنان في شكل طارئ لمواجهة أزماته، لن تصل إليه ما لم ينخرط في التوجّه الجديد، وأنّ السعودية ودول الخليج لن تمد إليه يد العون فعلاً ما بقي «حزب الله» ممسكاً بقراره.
ولذلك، على لبنان أن يختار واحداً من 3 سيناريوهات:
1- الاستجابة إلى الضغوط وحصر السلاح بالدولة. وهذا ما يؤدي إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي في لبنان، واندماجه في منظومة «الشرق الأوسط الجديد» التي ترعاها الولايات المتحدة.
2- رفض «الحزب» للمطالب. وفي هذه الحال سيواجه لبنان تصعيداً كبيراً وضغوطاً هائلة وعقوبات دولية، ومواجهات عسكرية مع إسرائيل، فيتحول ساحة نزاع مفتوح بين «المحور القديم» و«النظام الجديد».
3- انهيار الدولة اللبنانية بسبب عجزها عن الاستجابة للتحولات الإقليمية. وهذا الفشل قد لا يُترجم بانهيار اقتصادي أو سياسي أو أمني فحسب، بل يؤدي إلى مرحلة يصبح فيها وجود الدولة والكيان على المحك، وهو ما لوّح به برّاك أخيراً. ولكن، للتذكير، الموفد الفرنسي جان إيف لودريان كرّر التحذير من زوال لبنان مراراً وتكراراً في الأعوام الأخيرة.
وسيكون مثيراً أن يدفع اللبنانيون بأنفسهم إلى الخيارات الأسوأ، والاستعادة التراجيدية ـ الكوميدية لمآسٍ عاشوها لسنوات طويلة، وغالباً ما توافقت فيها إسرائيل مع نظام الأسد، أو تقاطعت مصالحهما في لبنان فرسما الخطوط بينهما، على الجسد اللبناني. الفارق اليوم هو أنّ سوريا تغيّرت، لكن إسرائيل بقيت هي نفسها. لا مشكلة عندها في هوية النظام الذي يبرم الصفقة معها. المهم أن يلتزم.