صوت الكلاشينكوف يغلب همس القرار…”حصر السلاح” على الورق فقط؟

كأنّ أحدهم مدّ يده إلى درجٍ سفليّ منسيّ في خزانة الطائف، نفخ الغبار عن عبارة قديمة، ونطق بها كمن اخترع البارود: “حصر السلاح بيد الدولة”، كما قررت الحكومة يوم أمس. هكذا، بلا سياق، بلا مقدّمات، بلا خطّة، وكأنّ الجملة لم تُستهلك طيلة ثلاثة عقود، ولم ترد في بيانات وزارية، ولم تُكتب في دفاتر النقاشات العقيمة، ولم تُصفّق لها وفود الخارج في مؤتمرات الإنقاذ التي لم تنقذ أحدًا.

في لبنان، أن يُقال شيء لا يعني أنه سيُنفَّذ. الجمل هنا مثل النيات: تُعلن ولا تُنجَز. والحديث عن “حصر السلاح” الآن، وسط الركام السياسي والعسكري والاقتصادي، ليس إلا محاولة لتهجئة الخوف، لتسكين ذعرٍ متصاعد في الحلق. ذعر من حرب لم تنتهِ، ومن هدنة لم تبدأ.

هذه الجملة بالذات تشبه شبحًا يعود إلى البيت بعد نفي طويل. ترتدي ثياب الطائف، تمشي بين خرائب 7 أيار، تتعثّر بحجارة عين الرمانة، وتهمس في أذن الجنوب، حيث لا صوت يعلو فوق هدير الطائرات، ولا قانون يسبق الغريزة.

نُعيد الكلام عمّا لا يمكن الكلام فيه. نُجرّب مرة أخرى أن نبدو دولة. بينما نعرف، في قرارة الأمر، أن هذا الحديث بالذات، حين يُستحضر، يكون البلد قد بلغ العتبة الأخيرة قبل الانفجار أو الازدهار.

الضاحية: السلاح، والدم، وما لا يُقال

في فرن صغير في الضاحية الجنوبية، تجلس أم علي منهمكة في قطاف أوراق الكزبرة على مهَل. تفرك الأوراق اليابسة بين أصابعها كما تفرك الكلام، وتنطق به بلا مواربة: “قصدك هيدا القرار؟ زفت”، تعليقاً على سؤال حول رأيها بقرار الحكومة اللبنانية يوم أمس حول حصرية السلاح بيد الدولة.

ترفع أم علي عينيها نحو الحائط، حيث صورة شهيد في العشرينيات من عمره، يبتسم من زمن آخر، وتقول: “نحنا قدّمنا دم. هني شو قدموا؟ هيدا السلاح مش ضد اللبناني، هيدا ضد العدو.”

كأنها تُغلِق النقاش قبل أن يبدأ. لا تحتمل السؤال، لا تداري الحنين، ولا ترى في قرار “حصر السلاح بيد الدولة” إلا نكرانًا معلّبًا بلغة رسمية باردة.

في الزواريب ذاتها شاب ثلاثيني يلبس سروال رياضة، والدخان يتصاعد من فمه، يقول وهو يضحك: “الدولة؟ ما بتمثلنا. وفرد خرز (مسدّس) كتير عليها”. بجانبه رجل أربعيني يتدخل من دون دعوة، صوته مخنوق لكنه حاسم: “يبلشوا من السلاح المحتل من مارون وبليدا وعيترون. نحنا مع نزع هيدا السلاح، غير هيك؟ أكيد لا.”

في محل تجاري في منطقة الضاحية عينها، يردّد شاب اسمه علي، كأنه يعيد درسًا في العقيدة: “هيدا السلاح للإمام المهدي، بس يظهر بياخده.” وفي محل بجانبه، لبيع المجوهرات، نسأل آدم عن رأيه. يضحك، يدخل، ويخرج ومعه كلاشينكوف. يرفعه في الهواء “تخيّلي؟ والله، لأسحب روحهم.” ثم يضحك من جديد، يعيد السلاح إلى مكانه، ويختفي.

لكن ليس الجميع صاخبًا في الضاحية، الصخب، في ظاهره، يبدو مهيمنًا: الهتاف، والرايات، وخطابات الغلبة، وفتيان الدراجات النارية في الليل. لكن تحت هذا الضجيج، هناك ضاحية أخرى، أكثر خفوتًا. ضاحية تنكمش كلما ارتفع الصوت. فيها من يفضّل الصمت، لا لأنه لا يملك رأيًا، بل لأنه يعرف الثمن.

رجل ستيني يُدعى حسن يقول “بدّك ياني آكل قتلة؟ خليني ساكت”، يقولها بابتسامة باهتة، ناظرًا خلف كتفه كمن اعتاد أن يراقب صوته.

طريق الجديدة: حوار الخوف والمصالح

في طريق الجديدة، المشهد مختلف. العلاقات هنا هشة، ناعمة، تتطلب توازنًا دقيقًا بين القول والفعل، بين الموقف وحفظ المصالح. السؤال عن السلاح وحصره بيد الدولة ليس مجرد سؤال سياسي، بل امتحان للعلاقات اليومية، كأنه اختبار للثقة بين جيران يشاركون الحارات والمحلات.

كثر يرفضون الكلام أمام الكاميرا، يخشون أن تُسجل الكلمات وتُستخدم لاحقًا. في أحد المقاهي، ينظر إليّ رجل في الثلاثينيات، يهمس بهدوء “ما بدي أطلع، بس نواف سلام أجدع زلمة”. وفي محل صغير بجانبه، يقول آخر: “بدك تعيشي وتاكلي؟ بدك دولة أو لا؟ السلاح مش نافعنا”. لكن لا يجرؤ على المجاهرة برأيه: “القرار صح مية بالمية، بس أنا بروح وبجي عالضاحية. ما فيني قول شي”.

وصوت آخر يصرح بوضوح “أنا ضد تسليم السلاح. لأنه حامي عرضنا وشرفنا”. لتقول امرأة “هذا السلاح ضروري”.

الأشرفية: بين الحلم بالدولة وهواجس الحرب

في الأشرفية، المشهد يبدو أكثر وضوحًا، هنا، اللبنانيون يريدون دولة قوية تحكم بقوانينها، تفرض سلطتها، وتضع حدًا للسلاح خارج نطاقها. لكن، وسط هذا التوق، ثمة خوفٌ لا يخفيه الكثيرون: خوف من إسرائيل، العدو الذي لم يغادر مشهدهم، ولم يمنحهم يومًا أمانًا كاملاً.

على أرصفة ساسين يرحبون بقرار الحكومة. لكن البعض يرى أن التنفيذ مرتبط بالواقع الإقليمي والدولي. عطالله، يقول: “القرار ممتاز، بس التنفيذ؟ بدنا نشوف.” رجل آخر لا يخفي تشاؤمه: “ما في تنفيذ بلا اتفاق أميركي إيراني. ونحنا بدنا الدولة تمسك البلد، بس كمان الجيش الإسرائيلي بعده محتل مناطق بالجنوب.”

شاب في منتصف العمر، يعلو صوته بفرح وبلغة الانتصار يقول: “قرار ممتاز. نطرنا ولقينا الفرج. وبإذن الله لبنان رايح على ازدهار”. شخص رابع ليس بعيداً عنه يعتبر أن القرار يعبّر عن وحدة حال جميع الأحزاب في لبنان: ” متل ما غير أحزاب سلّمت سلاحها. منتمنى يصير هيك مع الحزب ويجلس البلد.”

من الضاحية الجنوبية، مرورًا بطريق الجديدة، وصولًا إلى الأشرفية، وعلى رغم المسافات الجغرافية القصيرة، تختلف وجهات النظر بشكل صارخ، تعكس النسيج اللبناني المعقد والمتشابك. هذا التنوع ليس عشوائيًا، بل هو نموذج لبنان بكل تناقضاته، حيث السياسة تعانق الحياة اليومية، والخوف يختلط بالأمل، والسلاح رمز وعبء في آن واحد.

اترك تعليق