اياً كان شكل زيارة الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني للبنان وتوقيتها ومضمونها، فقد حملت مجموعة من الرسائل المتبادلة. فإلى تلك اللبنانية التي تفاوتت بين التشدّد في بعبدا والسراي الحكومي، من خلال الدعوة إلى علاقات بين دولتين وعدم حصر المساعدات الإيرانية بفئة من اللبنانيين، وبين الكلام التهدوي في عين التينة التي استفاد لاريجاني من منبرها للردّ، فتحدث عن «شكل العلاقات بين الدول المستقلة و»الأوامر الخارجية»، متناسياً أنّ مواقف من قصدهم كانت من أصدقاء كل لبنان ووسطاء لبّوا دعوته للتهدئة ووقف الحرب. وعليه، ما الذي يمكن الزيارة ان تكون أدّت إليه؟
لم تمرّ زيارة لاريجاني في أول إطلالة له من بيروت بعد بغداد من دون ان تحمل مجموعة من الرسائل في أكثر من اتجاه لبناني وإقليمي ودولي، تجاوز خلالها المسؤول الإيراني ما سمعه من انتقادات في بعبدا والسراي الحكومي، نتيجة التداعيات التي تركتها المواقف التي صدرت من مسؤولين إيرانيين شكّلت «نقزة» لدى أكثرية اللبنانيين، لما حملته من دعوات إلى وقف تنفيذ قرار حصر السلاح غير الشرعي بالجيش والمؤسسات العسكرية والأمنية في لبنان، والتنويه بدور «المقاومة»، متجاهلة النتائج التي تركتها الحروب الأخيرة على لبنان، وتلك التي استهدفت بلاده واليمن وسوريا، وما انتهت اليه من نكبات تشبه بما ارتكبته الدولة العبرية من مجازر لم يشهدها التاريخ من قبل في قطاع غزة ومناطق مختلفة من الضفة الغربية.
على هذه الخلفيات، قرأت مراجع ديبلوماسية مجموعة من الرسائل المتبادلة التي رافقت الزيارة في محطاتها القصيرة بين بعبدا وعين التينة والسراي وما بينها، حيث عقدت لقاءات عدة مع شخصيات ما زالت قريبة من طهران، وتلك التي رافقت زيارته إلى مرقد الأمين العام السابق لحزب الله السيد حسن نصرالله. وهي رسائل واضحة انتفت فيها المواقف المواربة، فكانت مباشرة ولو لم تخل من التحذيرات بضرورة حصر العلاقات بين الدول من ضمن المؤسسات ومن دولة إلى دولة، وليس على مستوى علاقاتها بأي حزب او طائفة، كما نُقل عن رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون في لقائه مع لاريجاني.
وكشفت مراجع مطلعة على تفاصيل لقاء بعبدا، انّ لاريجاني كان مستمعاً أكثر مما كان متكلماً في اللقاء مع عون، بعدما اكتفى بنقل تحيّات الرئيس الإيراني إلى نطيره اللبناني، مجدداً له الدعوة لزيارة طهران والرغبة في مساعدة لبنان في مجال إعادة الإعمار. وبعدما دان الاعتداءات الإسرائيلية التي تعرضت لها، عبّر عن رغبة إيران بالمشاركة في صندوق لإعادة اعمار المناطق المتضررة، منوّها بالدور الذي يلعبه الرئيس عون في تمتين الوحدة الوطنية. كما كرّر تأكيد دعم الحكومة اللبنانية والقرارات التي تصدر عن المؤسسات الدستورية اللبنانية، مشدّداً أنّ بلاده لا تتدخّل في الشؤون اللبنانية الداخلية. وانّ ما أدلى به لدى وصوله إلى بيروت يعكس وجهة النظر الرسمية لبلاده، ما يؤدي إلى نفي مضمون المواقف الإيرانية التي سبقت الزيارة، لجهة رفض القرارات الحكومية في شأن السلاح ودعوة «حزب الله» إلى عدم تسليمه.
ولكن رئيس الجمهورية كان واضحاً وجاداً عندما وجّه إليه الدعوة لجهة «ضرورة احترام بلاده سيادة لبنان وعدم التدخّل في شؤونه وقرارات الدولة اللبنانية لناحية حصر السلاح بيدها». مؤكّداً انّ «الصداقة التي نريد أن تجمع بين لبنان وإيران لا يجب ان تكون من خلال طائفة واحدة او مكوّن لبناني واحد، بل مع جميع اللبنانيين». لافتاً إلى انّ «الدولة اللبنانية مسؤولة من خلال مؤسساتها الدستورية والأمنية عن حماية كافة المكونات اللبنانية». وإذ قدّر عون سعي إيران إلى تأمين مصالحها، لفت إلى «اننا في لبنان نسعى إلى تحقيق مصالحنا. ونرفض أي تدخّل في شؤوننا الداخلية من أي جهة أتى، ونريد ان تبقى الساحة اللبنانية آمنة ومستقرة لما فيه مصلحة جميع اللبنانيين من دون تمييز».
وإذ حرص لاريجاني على مغادرة قصر بعبدا من دون الإدلاء بأي تصريح، تحدث لاحقاً بعد لقائه مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، ردّ على ما سمعه من عون بطريقة غير مباشرة. فتحدث عن «رؤية بلاده للعلاقات بين الدول المستقلة»، رافضاً ما سمّاه «الأوامر إلى لبنان التي من خلالها يُحدّد جدول زمنيّ ما، لحصر السلاح « ورأى انّه «ينبغي على الدول أن لا توجّه أوامر إلى لبنان». وقال: «رسالتنا تقتصر على أن تكون دول المنطقة مستقلّة بقراراتها، ولا تحتاج إلى تلقّي الأوامر من وراء المحيطات».
وإلى هذه الملاحظات وما أملته من مؤشرات ميّزت الزيارة عن سابقاتها لمسؤولين إيرانيين نتيجة المتغّيرات في لبنان وسوريا وايران، وتحوّل أراضيها مسرحاً للاعتداءات الاسرائيلية، خصوصاً والمنطقة عموماً، لفتت مراجع ديبلوماسية وسياسية مراقبة إلى انّ حديث لاريجاني عن الأوامر من الخارج لم تكن في محلها ولا في أوانها ولا هذا معناها الطبيعي. فإن قَصَد الأوراق الاميركية المتداولة بين المسؤولين اللبنانيين على انّها «اوامر خارجية» لم يتنبّه الى انّها «اوراق الوسيط الأميركي» الذي تمسك لبنان به وبدوره، وخصوصاً بعدما أبرم تفاهمات مع «الثنائي الشيعي» في فترة الفراغ الرئاسي، وهو ما اعتُبر في حينه إنجازاً كبيراً أحاله «الاخ الاكبر» إلى حكومة تصريف الاعمال لتبنّي محتواها، وما قالت به من خطوات وإجراءات لا مفرّ من تنفيذها. وقد طاولت المناطق جنوب الليطاني ومنه في اتجاه كل لبنان ومعها ضبط المعابر البرية والبحرية والجوية لمنع نقل الأسلحة والأموال والممنوعات. وهو قرار انعكس على شركات الطيران الإيرانية دون سواها تقريباً، بعدما قرّر وزير الاشغال العامة ممثل «حزب الله» علي حمية في حينه، قبل ان يتبنّى خَلفه ممثل الحزب «التقدمي الاشتراكي» إجراءات مماثلة فأقفل الأجواء أمامها نهائياً.
ad
وتكتفي المراجع الديبلوماسية بالتأكيد انّ بيروت ما زالت وجهة المسؤولين الإيرانيين على انّها منصة إقليمية ودولية شاء لاريجاني أن يستخدمها ليقول بطريقة مباشرة او غير مباشرة «إننا ما زلنا هنا في لبنان وفي العراق»، بعد ان وقَّع في بغداد مجموعة تفاهمات أمنية واقتصادية معها قبل زيارته لبيروت.