استعدوا لحرب «الخطوة خطوة» (طوني عيسى)

​من السهل جداً أن يقول الموفد الرئاسي الأميركي توم برّاك: «إنّه دور إسرائيل بتنفيذ الخطوة التالية». لكن الأمر في حقيقته أشدّ تعقيداً بكثير. فعلى طاولة المفاوضات، ستكون حرب الأوراق الديبلوماسية أكثر شراسة من حرب المدافع والصواريخ والمقاتلات والمسيّرات. وطبعاً، سيكون لبنان في الموقع الضعيف، يطلب نجدة واشنطن، وأما إسرائيل فتستند إلى رصيدها في حرب الـ11 شهراً لتفرض شروطها و«دلعها» على الجميع.

ad

​وسط الغبار المتصاعد داخلياً، نتيجة الجدل الساخن مع «حزب الله»، ينتظر لبنان البرنامج التفصيلي لـ«حصر السلاح بيد الدولة»، في الأيام القليلة المتبقية من آب. وبمعزل عمّا إذا كان هذا البرنامج سيُنجز في الموعد المحدّد، وعمّا إذا كان قادراً على بلوغ خواتيمه التنفيذية ضمن مهلة السنة الجارية، كما هو محدّد في ورقة برّاك وقرار الحكومة، فمن الواضح أنّ لبنان على وشك الدخول في مواجهة ديبلوماسية عنيفة مع إسرائيل، عنوانها: الخطوة خطوة. وخلالها، من المرجح أنّها سترفع الحرارة العسكرية، لتكون لها اليد الطولى وتفرض خياراتها الديبلوماسية.

على طاولة المفاوضات غير المباشرة، رقصة الديبلوماسية ستكون شديدة الحساسية، لأنّ الحَكَمَ الأميركي يتبنّى أساساً طرح إسرائيل، ويقف مع ما تفعله على أرض الجنوب. ومن أجلها، هو يعطل عمل لجنة الرقابة. وهو يساند في الأمم المتحدة طرحها الرافض لاستمرار عمل «اليونيفيل»، في الشريط الذي تطمح إلى أن تمتلك فيه السيطرة العسكرية حصرياً. ومن الواضح أنّ إسرائيل تريد لهذا الشريط أن يبدأ على حدودها الشمالية مع لبنان، ويتقدّم ليشمل حدودها مع سوريا أيضاً.

سارع الإسرائيليون إلى الردّ على برّاك: لا نطمع بالبقاء في لبنان. لكن خطواتنا تنتظر أن ينفّذ لبنان خطوات فعلية لا مجرد وعود. فاقتضى الإيضاح. وهذا الكلام يقول كل شيء دفعة واحدة، ويستبق أي مفاوضات يفكر برّاك في إطلاقها قريباً. وبناءً على ذلك، يتوقع ديبلوماسيون في بيروت أن يكون منطلق إسرائيل في أي مفاوضات مكوكية هو «التباخل» الشديد في الخطوات. أي إنّها لن تأخذ الوعود اللبنانية على محمل الجد. فـ»خطوة» إطلاق الوعود، ستقابلها بـ»خطوة» إطلاق وعود مقابلة. لكنها ستنتظر الخطوات العملية لتردّ عليها بخطوات عملية. وتدرك إسرائيل أنّ أي شيء تقدّمه في لبنان حالياً سيُضعف من أوراق الضغط التي تمتلكها. ولذلك، هي لن تقدّم شيئاً مجاناً. أي لن تقلّص عملياتها كمّاً ونوعاً، قبل تحقيق التغيير فعلاً على الأرض.

ستطلب إسرائيل من برّاك إقناع لبنان بتفكيك مواقع «الحزب» ونزع أسلحته وسحب مقاتليه من جنوب الليطاني، والدخول في برنامج لإنهاء حال الحزب كتنظيم مسلح. وستطالب بأن تكون هذه الخطوات علنية، موثقة دولياً، وغير قابلة للتراجع. وعند التثبت من الوفاء بهذه الالتزامات، ستقول للوسطاء إنّها مستعدة لبدء التنفيذ من جانبها. وقد تكون الإشارة الأولى وقف العمليات الحربية لفترة تجريبية، أو انسحاباً رمزياً من منطقة حدودية صغيرة، أو حتى بدء محادثات حول تبادل أسرى.

طبعاً، ​في المقابل، سيضغط لبنان لتحصيل تنازلات أمنية كبيرة ومبكرة من الجانب الإسرائيلي. وسيطلب من إسرائيل وقفاً فورياً شاملاً وكاملاً لكل الأعمال العدائية براً وبحراً وجواً. وهذا يشمل وقف الطلعات الجوية فوق الأجواء اللبنانية كلياً، وسحب جميع القوات من الأراضي اللبنانية، بما في ذلك مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. وعندها فقط، قد يقتنع «حزب الله» بتطبيق المطلوب منه عملياً، وإلّا فهناك مأزق على الطريق.

بين هذين المنطقين المتصادمين، يحاول برّاك ونائبته مورغان أورتاغوس وسائر الوسطاء كتابة «شيفرة» ديبلوماسية يقبلها الطرفان. ومهمتهم ليست سهلة، وهي تتلخص في إيجاد «تسلسل أحداث» يحقق الحدّ الأدنى من ضمانات لكل طرف، من دون أن يشعر بأنّه قدّم أكثر مما حصل عليه. ويتخيّل بعض الخبراء حلاً يقوم على تنفيذ «مراحل مزدوجة» صغيرة بتطبيق السيناريو الآتي أو ما يشابهه:

​المرحلة الأولى: لبنان يفكّك قواعد عدة لـ«الحزب»، في مناطق معينة، فيما توقف إسرائيل عملياتها الحربية لفترة تجريبية.

​المرحلة الثانية: لبنان يُسجّل تقدماً في سحب سلاح «الحزب»، وإسرائيل تبدأ بالانسحاب جزئياً من المواقع التي بقيت فيها.

​المرحلة الثالثة: لبنان يدخل في تنفيذ الجدول الزمني لتسليم السلاح بكامله، وإسرائيل تبدأ محادثات جدّية حول تبادل الأسرى والترتيبات الأخيرة.

​هذا السيناريو ربما يكون نظرياً وصعب التنفيذ، لأنّ لبنان الرسمي سيحاول جاهداً فرملة تنازلاته تجنّباً للرضوخ للشروط الإسرائيلية، وتجنّباً للتصادم الكبير مع «حزب الله». وفي المقابل، ستمارس إسرائيل عمليات الابتزاز القصوى لإجبار لبنان على الرضوخ. ولذلك، بات النزاع بين لبنان وإسرائيل يدور في جوهره حول: «مَن الأقوى… والأذكى، والأقدر على تحمّل عضّ الأصابع القاسي، ولا يصرخ

اترك تعليق