مع اقتراب موعد التجديد السنوي لقوات الأمم المتحدة الموقتة في جنوب لبنان (اليونيفيل)، تتصاعد الأسئلة حول موقف الولايات المتحدة وما إذا كانت ستواصل دعم هذه القوة، مالياً وسياسياً، أم ستتجه إلى الانسحاب والامتناع عن تجديد التفويض. وفي حال حصول ذلك، يبرز سيناريو دخول الصين على الخط، سواء عبر تعزيز مساهماتها المالية أو رفع عدد قواتها، ما يفتح الباب أمام بكين للتقدم نحو شرق المتوسط عبر البوابة اللبنانية. هذه الاحتمالية تحمل أبعاداً سياسية واقتصادية واستراتيجية بالغة الأهمية، سواء لواشنطن أو لبكين أو للمنطقة بأسرها.
الإطار القانوني والمالي لليونيفيل
تجديد مهمة اليونيفيل يتم سنوياً عبر مجلس الأمن الدولي، حيث عادةً ما تتولى فرنسا صياغة مشروع القرار. من الناحية الإجرائية، يكفي امتناع الولايات المتحدة عن التصويت كي يستمر التفويض، لكن استخدام الفيتو الأميركي يعني إسقاط المهمة بالكامل.
أما على الصعيد المالي، فإن ميزانية عمليات حفظ السلام الأممية وبحسب مصادر الأمم المتحدة، تبلغ أكثر من 5.5 مليارات دولار سنوياً، فيما تخصص لليونيفيل وحدها ميزانية تفوق 536 مليون دولار. تتحمل الولايات المتحدة تقليدياً نحو 27% من موازنات حفظ السلام، لكنها تفرض سقفاً قانونياً عند 25%، ما يخلق فجوة في التمويل. الصين، بالمقابل، تدفع ما يقارب 19% من موازنات حفظ السلام، لتكون ثاني أكبر ممول بعد واشنطن.
هذه الأرقام تعكس أن الانسحاب الأميركي لا يعني بالضرورة توقف التمويل بشكل فوري، لكنه يضع الأمم المتحدة أمام أزمة سيولة، ويجبر الدول الأخرى على سد الفجوة. هنا يبرز الدور المحتمل للصين، لكن ضمن حدود النظام المالي الأممي الذي لا يسمح لدولة واحدة بتحمل العبء بأكمله.
الحضور الصيني الحالي وإمكانيات التوسع
تشارك الصين في اليونيفيل منذ سنوات، وهي اليوم من أكبر المساهمين بين الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن. يبلغ عدد قواتها في جنوب لبنان نحو 500 جندي، معظمهم من فرق الهندسة الطبية وإزالة الألغام، وقد نفذوا خلال العام الماضي مهام بارزة في نزع المتفجرات وتقديم المساعدات الطبية واللوجستية.
إمكانية توسيع هذا الحضور قائمة، إذ تستطيع بكين إرسال وحدات إضافية متخصصة في البناء والاتصالات والدعم اللوجستي، أو تعزيز دورها عبر تعيين ضباط أركان في القيادة المركزية بالناقورة. غير أن أي زيادة كبيرة يجب أن تمر عبر توافق مع الدول المساهمة الأخرى، مثل إيطاليا وفرنسا وإندونيسيا والهند وغانا، التي تشكل العمود الفقري لليونيفيل.
الحسابات السياسية لواشنطن وبكين
من منظور واشنطن، يتزايد الاتجاه الذي يرى أن اليونيفيل لم تحقق الهدف الأساسي المتمثل في تقييد أنشطة حزب الله جنوب الليطاني، وأنها تحولت إلى قوة رمزية أكثر منها ردعية. لذلك تطرح بعض الأصوات الأميركية خيار وقف الدعم أو تعديل المهام بشكل جذري.
في المقابل، تنظر بكين إلى حفظ السلام كمنصة لتعزيز صورتها كقوة مسؤولة و”محايدة”، وتستثمر في هذه المشاركات لتعزيز حضورها الدبلوماسي في الأمم المتحدة وكسب ثقة دول الجنوب العالمي. وإذا قررت الولايات المتحدة التراجع، فإن الصين ستجد فرصة لتقديم نفسها كفاعل صاعد قادر على ضمان الاستقرار حيث تفشل القوى التقليدية.
لكن حدود الدور الصيني يفرضها الواقع السياسي، فإذا استخدمت واشنطن الفيتو وأسقطت التفويض، فلن يكون بمقدور بكين إبقاء القوة على قيد الحياة. أما إذا امتنعت فقط وامتنعت عن التمويل، فإن الباب يُفتح أمام الصين لتعزيز وجودها، دون أن تتمكن من سد الفجوة الأميركية بشكل كامل.
البعد الاقتصادي والاستراتيجي
لا يمكن فصل الحسابات الصينية في لبنان عن سياستها الأوسع في شرق المتوسط. فقد عززت بكين حضورها الاقتصادي في المنطقة عبر استثمارات ضخمة في الموانئ: ميناء بيريوس في اليونان الذي تسيطر عليه شركة “كوسكو”، وميناء حيفا الذي حصلت على امتياز تشغيله لربع قرن. هذه الاستثمارات تجعل من استقرار الممرات البحرية في شرق المتوسط مسألة حيوية للتجارة الصينية.
من هنا، فإن أي دور أكبر للصين في اليونيفيل لن يكون مجرد خطوة سياسية، بل أيضاً وسيلة لحماية مصالحها اللوجستية وتأمين طرق التجارة المتجهة عبر قناة السويس نحو الأسواق الأوروبية. كما أن المشاركة في حفظ السلام تمنح الصين قناة تواصل مباشرة مع الجيش اللبناني، وتسمح لها ببناء نفوذ تدريجي في بلد يعاني من أزمة اقتصادية خانقة، ما يتيح لبكين توظيف المساعدات الإنمائية والتقنية كورقة قوة إضافية.
المخاطر الكامنة
غير أن الدخول الصيني الأعمق في جنوب لبنان ليس بلا ثمن. فالميدان يشهد منذ 2024 تصعيداً متواصلاً مع إسرائيل، واستهدافات متكررة لمواقع قوات الأمم المتحدة. هذا الواقع يرفع مستوى المخاطر على أي قوات إضافية ترسلها بكين، وقد يجعلها عرضة لخسائر بشرية أو أزمات سياسية.
إضافة إلى ذلك، فإن أي حضور صيني موسع قد يثير حفيظة الولايات المتحدة وإسرائيل، إذ سيُنظر إليه كجزء من التنافس الجيوسياسي الأكبر بين واشنطن وبكين، وربما كبداية لتغلغل عسكري صيني في منطقة تعتبرها واشنطن تقليدياً ضمن نطاق نفوذها. هذا التوجس قد ينعكس في ضغوط دبلوماسية أو حتى محاولات لإعادة تشكيل التفويض بطريقة تحد من الدور الصيني.
السيناريوهات المحتملة
1- فيتو أميركي شامل: في هذا السيناريو، تسقط مهمة اليونيفيل كلياً، وينسحب أكثر من عشرة آلاف جندي من جنوب لبنان. الصين لا تستطيع التدخل لإنقاذ المهمة، وتترك الساحة لفراغ أمني خطير يزيد من احتمالات المواجهة بين إسرائيل وحزب الله.
2- امتناع أميركي ووقف التمويل: هنا تبقى اليونيفيل قانونياً، لكنها تواجه أزمة مالية. الصين يمكن أن تقدم مساهمات إضافية أو ترسل قوات جديدة، ما يمنحها دوراً أكبر في المشهد اللبناني والشرق متوسطي. غير أن بكين لن تتمكن من سد الفجوة وحدها، وستظل بحاجة إلى دعم أوروبي وآسيوي.
3- تجديد تقليدي مع تعديلات طفيفة: وهو السيناريو المرجح، حيث تمارس واشنطن ضغوطاً لزيادة صلاحيات القوة أو تعزيز التنسيق مع الجيش اللبناني، بينما تستفيد الصين من استمرار المشاركة وتوسعها التدريجي دون مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة.
الخيار الأميركي بشأن مستقبل اليونيفيل سيحدد ملامح المرحلة المقبلة في جنوب لبنان، لكنه أيضاً قد يفتح نافذة جديدة للصراع غير المباشر بين واشنطن وبكين. فإذا انسحبت الولايات المتحدة جزئياً، ستجد الصين فرصة لتعزيز صورتها كقوة مسؤولة وحامية للاستقرار، مستثمرة في حضورها العسكري والاقتصادي على السواء. أما إذا انسحبت كلياً وأسقطت التفويض، فإن الصين ستفقد بدورها منصة مهمة للنفوذ في شرق المتوسط.
وبين هذين الحدين، يبدو أن الصين تسعى إلى تكريس حضور متدرج، لا يتحدى الولايات المتحدة بشكل مباشر، بل يراكم أوراق قوة في لحظة إقليمية ودولية تتسم بالتحولات العميقة. وهكذا، قد يتحول جنوب لبنان إلى ساحة إضافية للتجاذب بين القوتين العظميين، في زمن تتقاطع فيه خطوط النزاع المحلي مع حسابات الاستراتيجية العالمية.