ينتظر مراقبو سير المفاوضات التي وصل إليها الموفد الرئاسي الأميركي توم برّاك عودته إلى بيروت في الأيام القليلة المقبلة، للتثبت من قدرته على الإتيان بردّ إسرائيلي، يمكن ان يُحتسب إنجازاً لملاقاة الخطوات اللبنانية الإيجابية التي استحق عليها «صك براءة» من الإدارة الأميركية في الطريق إلى البحث عن حلحلة لا يبدو انّها في الأفق، نتيجة التصلّب الذي أبدته إسرائيل حتى الآن، متسلّحة بما أنجزته في حروبها، في مقابل تمسك «حزب الله» بالمستحيلات. وعليه، ما هي المؤشرات الدالّة إلى هذه المعادلة الصعبة؟
ليس سهلاً تقدير ما سيكون عليه الموقف الإسرائيلي مما حمله برّاك ومساعدته مورغان اورتاغوس من بيروت إلى تل أبيب، بعد محطة قصيرة أمضياها في باريس خُصصت للبحث في بعض الخطوات الخاصة بالأزمة السورية وتحديداً بما يتصل بوضع الجنوب السوري والترتيبات الأمنية المطلوبة في المنطقة السورية المحتلة، التي كانت تشكّل المنطقة العازلة منذ نهاية حرب 1973 بين البلدين، وهي الواقعة قبالة منطقة الجولان السوري المحتل، وما هو مطروح على طاولة البحث بين المسؤولين السوريين والإسرائيليين، في انتظار ان تتكشف الحقائق التي تناولها لقاء باريس أول أمس بين وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني ووزير الشؤون الاستراتيجية الاسرائيلي رون ديرمر، خصوصاً انّه اللقاء الذي عُقد بعد فشل المساعي الإسرائيلية لعقد لقاء قبله لفتح ممر إنساني من الجولان المحتل، يوفّر الاتصال المباشر بين القرى الدرزية المحتلة ومدينة السويداء، وهو ما كان موضع اللقاء القصير الذي عُقد بين برّاك والشيخ موفق طريف زعيم الطائفة الدرزية في إسرائيل دون أي نتيجة إيجابية.
وكما هو معلوم، فقد شدّدت المراجع الديبلوماسية والسياسية على ضرورة مقاربة الوضع في لبنان من زوايا مختلفة، بالنظر إلى حجم العوامل المتفجّرة التي نمت على جانبي أحداثها. وإنّ ما هو مطلوب لحلحلة الأزمة بات رهن فكفكة مجموعة من العقد، للفصل بين ما يجري في جنوب لبنان وبقية أحداث المنطقة.
ad
فمساعي برّاك لم تكتمل بعد، ولم يحقق أي خرق في جدار الأزمة كان يتمناه في وقت سابق. وهو ما زال يسعى لهذه الغاية من خلال تكثيف مساعيه على الجبهتين السورية والإسرائيلية على حدّ سواء. فيما ما زالت إسرائيل تعوق أي تقدّم على هذا المستوى، لا بل فهي تسعى إلى الربط الكامل بين مختلف الجبهات التي تخوضها من غزة إلى لبنان وسوريا واليمن وصولاً إلى إيران، بحثاً عمّا يقود إلى «الصفقة الشاملة».
وما زاد من التعنت الإسرائيلي، انّه نجح في استدراج الولايات المتحدة إلى الملف النووي الإيراني، لتكتمل الحلقة التي تقود إلى مشروع حل شامل ليس من السهل تحقيقه اليوم، ولكنه يسمح في إبقاء إسرائيل في دائرة الدعم الدولي الذي جنت منه كثيراً في مسلسل الحروب التي شنّتها، مستفيدة من كل العوامل التي تسببت بها عملية «طوفان الأقصى»، وأتاحت لها بتكبير حجرها في المنطقة، فأسقطت النظام السوري بعد تدمير غزة ولبنان، ووجّهت ضربة قاسية لطهران، ولكنها لم تحقق غايتها حتى الآن بمقدار ما تسببت به من إطالة أمد الحرب وإمكان تجّددها في أي لحظة.
لا تقف المقاربة اللبنانية لما يمكن أن يعود به برّاك واورتاغوس إلى بيروت عند ما يجري في المنطقة، بمقدار ما تنتظر جواباً إسرائيلياً واضحاً يسهّل تنفيذ قرار الحكومة بحصر السلاح. فكل ما هو متوافر من دعم عربي وخليجي عبر الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية حسام زكي، عندما اكّد وقوف جميع الدول العربية بلا استثناء إلى جانب لبنان في ما يريد تحقيقه، مقدّراً ما تبلّغه من أركان السلطة خلال جولته عليهم، وخصوصاً من رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، الذي أبلغ اليه «انّ القرار الذي اتخذه مجلس الوزراء في شأن حصرية السلاح تمّ تعميمه على جميع الدول الشقيقة والصديقة والأمم المتحدة». وإنّ لبنان «ملتزم بتطبيقه على نحو يحفظ مصلحة جميع اللبنانيين». كما شدّد عون، على انّ هذا القرار أُبلغ ايضاً إلى «جميع المعنيين، ولا سيما منهم الولايات المتحدة الأميركية، وانّ المطلوب الآن التزام إسرائيل من جهتها بالانسحاب من المناطق التي تحتلها وإعادة الأسرى وتطبيق القرار 1701».
ad
وإلى هذه الملاحظات، كشف ديبلوماسي سابق، انّه التقى برّاك مصادفة في مكان لم يكن يخطر على باله في نهاية زيارته الرابعة لبيروت. وسمع منه كلاماً لم يسمعه قبلاً من أي ديبلوماسي أميركي او أممي، على رغم من معرفته بالعقل الأميركي بحكم مهماته الديبلوماسية السابقة في محطات مهمّة من تاريخ لبنان والنزاع العربي – الإسرائيلي. وما كان لافتاً حجم تقديره لجرأة المسؤولين اللبنانيين وخصوصاً رئيس الجمهورية ومعه رئيس الحكومة، اللذين قادا مجلس الوزراء إلى اتخاذ القرار بحصر السلاح بالجيش والقوى العسكرية والأمنية في ظلّ الظروف الراهنة. ولم ينس لفت النظر إلى موقف رئيس مجلس النواب نبيه بري بصفتيه كرئيس لمجلس النواب من جهة وأحد طرفي «الثنائي الشيعي» من جهة اخرى. مراهناً على المواقف التي ستقود في النتيجة إلى ما يريده اللبنانيون بمختلف طوائفهم ومناطقهم ومشاربهم، وانّ ليس كل ما يسمع ويرى عن تمايز بين ترحيبهم بالقرار دقيقاً. فاللبنانيون بأكثريتهم لم يجمعوا مرّة كهذه المرّة على مثل هذا القرار، وقد فاقت معاناتهم طاقة أي شعب، وكل ما يريدونه أن يُعاد بناء ما دُمّر وأن يعودوا إلى حياتهم الطبيعية.
ad
وقال الديبلوماسي نقلاً عن برّاك، إنّه لم يتوقع ما صدر عن الحكومة اللبنانية، وقد لاقت خطوتها تقديراً عالياً ليس على مستوى القرار بحدّ ذاته، بل انّ العالم بأسره قرأ جرأتهم في مواجهة مسلسل الأزمات التي يعيشها لبنان، وانّه لا بدّ من النفاذ من مكان ما إن ارادوا أن يعيشوا في أفضل الظروف، وإعادة بناء ما دُمّر وإبعاد شبح الحروب المتكرّرة كل عقد او عقدين، وانّه آن أوان قيام الدولة القادرة التي تستطيع أن تسيطر على ارضها وتضمن أمن مواطنيها وتمارس سيادتها كاملة، بطريقة لا تنقاد فيها إلى أي حرب أخرى ولا يكون لها فيها أي قرار.
وفي مقابل الشهادة التي أعطاها بالحكم والحكومة، تعهّد برّاك بالسعي لتوفير أجوبة إسرائيلية إيجابية على الخطوات اللبنانية الأخيرة. وانّه لا بدّ من ملاقاتكم بالخطوة المناسبة. وهو لم يجزم بما يمكن ان يصل اليه في مسعاه بين بيروت وتل أبيب وباريس، ولكنه يصرّ على أن تُقدم اسرائيل على خطوة كبيرة تلاقي الخطوات اللبنانية بما يشبه إحداها على الاقل. وهو ما قاد الديبلوماسي إلى استنتاج انّ برّاك لن يكون بعيداً ليعود بالتزام إسرائيلي متقدّم، قد يكون تجميد العمليات العسكرية ووقف الغارات والإغتيالات التي يشنّها طيرانه الحربي والمسيّر يومياً في لبنان لفترة من الزمن، بطريقة يمكن ان تُنجِح الحكومة في التقدّم ولو بخطوة صغيرة في اتجاه حصر السلاح غير الشرعي.
وعند عودة الديبلوماسي إلى بيروت مستذكراً ما دار من حديث مع الموفد الأميركي، قرأ في مسألة تسليم «حفنة» من السلاح الفلسطيني في مخيم برج البراجنة، خطوة تتجاوز الحدث بما حاول البعض جعله كاريكاتورياً او مفبركاً. فماذا سيكون موقف المستهترين بالخطوة إن اكتشفوا انّ القرار بحصر السلاح بات توجّهاً إقليمياً ودولياً، ولا بدّ أن يقترب من تنفيذه.