كما في لبنان، كذلك في إيران والعراق واليمن. لا تنفصل مهمّة توماس بارّاك والهجوم السياسي الأميركي الذي تشهده بيروت عبر الوفود الكبيرة من الكونغرس والإدارة، عن مقتضيات المواجهة الأميركية الإيرانية على الرغم من انحسارها بخروج إيران من سوريا. بات السؤال المطروح: كيف سيتمّ سحب سلاح “الحزب” من دون مواجهة عسكريّة وسياسيّة معه؟
وسط التقلّبات في المواقف الإيرانية، بدأت الصحافة المتشدّدة هجوماً ضدّ رفع القوى الإصلاحية المعارِضة صوتها بعد مرور أكثر من شهرين على الحرب الأميركية الإسرائيلية على المواقع العسكرية والنووية في إيران.
في شأن العراق، لا يخفي المسؤولون الإيرانيون أنّ دور “الحشد الشعبي” جوهريّ ومهمّ لطهران في بلاد الرافدين، في مواجهة نفوذ واشنطن
التّشدّد الإيرانيّ ضدّ الإصلاحيّين وظريف
صدر بيان عن “الجبهة الإصلاحية” قبل زهاء أسبوع طالب بالتفاوض المباشر مع الولايات المتّحدة، وبوقف تخصيب اليورانيوم طوعيّاً لرفع العقوبات، وبالمصالحة الوطنية والإفراج عن السجناء السياسيين ورفع القيود عن قادة الثورة الخضراء وعودة القوّات المسلّحة إلى الثكنات وإنهاء دورها السياسي والاقتصادي وإجراء انتخابات حرّة، ولقي هذا البيان ردود فعل متفاوتة لدى قوى تصنَّف في خانة المعارضة الوسطيّة، مؤيّدة أو متريّثة، لكنّ الردّ جاء عنيفاً لدى المتشدّدين.
رئيس مجلس الشورى محمد قاليباف وصفه بـ”الساذج”. وظهرت كتابات في الصحف المتشدّدة تتّهم الإصلاحيّين بالتحضير لـ”انقلاب”، شبيه بالانقلاب على الرئيس الإيراني الأسبق محمد مصدّق عام 1953 بدعم أميركي بريطاني، لأنّه يستجيب للمطالب الأميركية. اعتبر بعض الإعلام الإيراني (صحيفة كيهان الأصوليّة) أنّ أطروحة وزير الخارجية السابق والمستشار المستقيل للرئيس الحالي محمّد جواد ظريف عن ضرورة “تغيير طريقة التفكير” واقتراحه، في مقال له في مجلّة “فورين بوليسي” في 17 آب الجاري، توقيع “معاهدة عدم اعتداء” مع الولايات المتّحدة، “وهم طفوليّ”. يرفض المتشدّدون الإيرانيون أيّ اتّفاقات مع الغرب تجرِّد طهران من إمكاناتها العسكرية والصاروخية، ومن برنامجها النووي.
التّمسّك بـ”الحشد الشّعبيّ” في العراق
في شأن العراق، لا يخفي المسؤولون الإيرانيون أنّ دور “الحشد الشعبي” جوهريّ ومهمّ لطهران في بلاد الرافدين، في مواجهة نفوذ واشنطن التي تضطرّ إلى البدء بسحب قوّاتها من قاعدتَي عين الأسد وفيكتوريا إلى كردستان العراق، ردّاً على طرح مشروع قانون دمج الميليشيات الموالية لحرس الثورة الإيرانية في المؤسّسة العسكرية، الذي يصرّ عليه “الإطار التنسيقي” الذي يضمّ القوى الولائيّة كافّة. أدّت الخلافات الثانوية إلى سحبه مؤقّتاً من قبل الحكومة. لكنّ هذه القوى مصمّمة على إقراره قبل الانتخابات البرلمانية في تشرين الثاني المقبل، لأنّ نفاذه يكرّس أرجحيّتها في موازين القوى الداخلية، وبالتالي الإقليمية.
يتحدّث المطّلعون بدقّة على فحوى محادثات لاريجاني في بيروت في 13 آب، عن واقعة معبّرة عن حواره مع الرئيس جوزف عون
نفي التّدخّل بلبنان والعودة إليه
على الرغم من تأكيد مستشار الأمن القومي الإيراني علي لاريجاني، الذي يتحرّك بوجهه التفاوضيّ، للمسؤولين اللبنانيّين أنّ بلاده لن تتدخّل في مسألة سحب سلاح “الحزب”، عاد مسؤول التنسيق في فيلق القدس في “الحرس” يوم أمس إلى ترداد عبارة “الشعب اللبناني و”الحزب” لن يقبلا خطّة سحب السلاح التي لن تنجح”، معتبراً أنّها مؤامرة إسرائيلية أميركية. وهي العبارة التي دفعت المسؤولين اللبنانيين إلى إثارة مسألة رفضهم التدخّل بالشؤون الداخلية إثر التصريحات الإيرانية الرافضة لقرار الحكومة في 5 آب تكليف الجيش وضع الخطّة التنفيذية لحصريّة السلاح بيد الدولة وسحب السلاح من الميليشيات على الأراضي اللبنانية كافّة.
لا تطلبوا منّا التّدخّل لدى “الحزب”
يتحدّث المطّلعون بدقّة على فحوى محادثات لاريجاني في بيروت في 13 آب، عن واقعة معبّرة عن حواره مع الرئيس جوزف عون. قال المسؤول الإيراني للأخير حين طالبه بعدم التدخّل في الشأن الداخلي، ولا سيما في موضوع سحب السلاح: “لن نتدخّل… لكنّ عليكم أن تتذكّروا أنّكم طالبتمونا بعدم التدخّل حين تحتاجون إلينا في شأن يتعلّق بـ”الحزب”. كان ذلك إيذاناً من لاريجاني بأنّ طهران ستترك لـ”الحزب” أن يمارس معارضته لقرار الحكومة. ولم يكن صدفة أنّ الأمين العامّ الشيخ نعيم قاسم انتظر من 5 آب حتّى 13 منه حتّى ينطق بالموقف الرسمي لـ”الحزب” من قرار الحكومة، بعد لقائه لاريجاني بساعات.
الرسالة واضحة من كلام لاريجاني، الذي لا يخرج عن أسلوب طهران المعهود في التعبير عن موقفها: تترك لـ”الحزب” وحلفائه التشدّد وتبقي على المساومة في يدها، لكن مع القوى الخارجية المعنيّة، وليس مع لبنان. وهو ما يطرح السؤال عمّا إذا كان تنفيذ الحكومة قرارها سيفضي إلى مواجهة بينها وبين “الحزب”، ما دام وقت الصفقات بين طهران وواشنطن لم يحِن لانسداد أفق التفاوض، على الرغم من بعض الإشارات الخاضعة للتجاذب الداخلي بين جبهة الإصلاحيين والمتشدّدين.
مع رهن بنيامين نتنياهو “تقليص وجود إسرائيل تدريجاً بنزع السلاح”، تتعامل واشنطن مع لبنان بأسلوب الخطوة مقابل خطوة على طريقتها
تأجيل… ومواجهة سياسيّة لا عسكريّة
تتزامن الدعوة التي أطلقها “الحزب” إلى تجمّع احتجاجيّ على قرار الحكومة في وسط بيروت غداً، مع زيارة بارّاك ووفد الكونغرس. تستعرض واشنطن حجم نفوذها في البلد، استباقاً للضغوط الإيرانية للحؤول دون تنفيذ قرار الحكومة. ويرفع نزول الحزب إلى الشارع درجة المواجهة السياسية، ما دام القرار هو تجنّب الصدام بين الجيش و”الحزب”. فالرئيس برّي نجح، حسب تأكيد مصادر متعدّدة مقرّبة منه لـ”أساس”، في ضمان عدم اصطدام “الحزب” عسكريّاً بالجيش. وقرار السلطة وقيادة الجيش هو إعداد الأخيرة خطّتها التنفيذية على قاعدة استبعاد الصدام. لكنّ النتيجة هي تأخير تنفيذ سحب السلاح. والمدّة متروكة للظروف الداخلية والإقليمية.
ترجّحُ هذه المعادلة ذهاب البلد إلى مرحلة من التأزّم السياسي، تزداد خلالها المناورات، وتتكثّف المساعي الأميركية من أجل مزيد من التطويق السياسي والأمنيّ لـ”الحزب”. ويُنتظر أن يطال البلد برمّته قسطه من الحصار، بدليل التصلّب في شروط تجديد ولاية قوّات الأمم المتّحدة في الجنوب، وحجب المساعدات. وستبقى الشكوى من تقنين المساعدات للجيش قائمة.