هل تريد إسرائيل فعلاً نزع سلاح «الحزب»؟ (طوني عيسى)

أحياناً يستنتج المحللون أنّ مصلحة إسرائيل هي في استمرار تمسّك «حزب الله» بسلاحه، وليس بتسليمه إلى الدولة. فإذا كانت لها اليوم اليد الطولى في تدمير مخازن هذا السلاح يومياً، وتصفية نخبة الكوادر القادرين على استخدامه، والتوسع في عمليات السيطرة العسكرية في شكل متدرّج، عبر الحدود، فما الذي يزعجها إذا غرق اللبنانيون في مناقشات عبثية لا تنتهي، وفي مناخات التوتر، تحت «عنوان» نزع السلاح؟
ad

قد يبدو مثيراً للبعض أن يسمع أنّ إسرائيل ربما ليست مستعجلة لنزع سلاح «حزب الله»، خلافاً لما تبديه، أو ربما لا تريد نزعه مطلقاً، لأنّها مستفيدة من بقائه كـ«عنوان» للأزمة المفتوحة مع لبنان. ولكن، هذه هي الحقيقة على الأرجح.

يجدر التفكير هنا في واحدة من الديناميات الأكثر تعقيداً وإثارة للجدل في العلاقات الدولية والصراعات، وهي الآتية: العدو يراهن على التصعيد في مواقف الطرف الذي يقاتله، ويحاول استثمار هذا التصعيد لمصلحته. وهذه الفكرة التي تتكرّر دائماً عبر التاريخ تقوم على مبدأ بسيط:

عندما يرتكب طرف عملاً غير محسوب في المواجهة مع العدو، ففي غالب الأحيان يمنحه غطاءً معنوياً أو سياسياً أو عسكرياً يحتاج إليه من أجل بلوغ أهداف كان يصعب عليه تحقيقها في الظروف العادية. فعلى سبيل المثال، إذا كانت الحكومة الإسرائيلية الحالية تعمل فعلاً لتحقيق «إسرائيل الكبرى» التي تشمل أجزاء من لبنان وسوريا والأردن ومصر والعراق، وفلسطين بكاملها، فإنّ أكبر خدمة تتلقّاها هذه الحكومة هي فتح حرب معها على هذه الجبهات كلها. ففي ظل الاختلال الفاضح في موازين القوى بينها وبين كل دول الجوار، هي تتمنى أن يعطيها أحد مبرر الحرب لتدخل أرضه وتحتل وتسيطر. أي إنّ العدو الباحث عن الذرائع لتنفيذ مخطط معين، يُكافأ بأن تصل إليه الذرائع جاهزة، بأيدي خصمه، وعلى طبق من ذهب.

إسرائيل مستفيدة اليوم من عدم تسليم «حزب الله» سلاحه إلى الدولة. وهي تستغل هذه المسألة للقول إنّ هناك طرفاً في لبنان يمتلك الصواريخ الدقيقة القادرة على تهديد أمنها، فيما هي في الواقع دمّرت جزءاً كبيراً من ترسانة الصواريخ التي أظهرت حرب الـ11 شهراً أنّها لم تصب إسرائيل بأي أذى. وعلى العكس، كانت هي الذريعة لقيام إسرائيل بتدمير أحياء ومدن وقرى كاملة في لبنان. لقد سعت إسرائيل إلى تصوير نفسها في موقف الدفاع عن النفس. وهي تستغل هذا الوضع للحصول على تعاطف أميركي ودولي، ولتبرير عملياتها العسكرية الواسعة النطاق، وتدمير البنية التحتية، وتصفية الكوادر الحزبيين، بلا خوف من ردّ الفعل الدولي.
ad

وما يُقال عن «حزب الله» في لبنان، يُقال أساساً عن «حماس» في غزة. فما قامت به الحركة يوم 7 تشرين الأول 2023 هو مثال نموذجي لظاهرة الطرف الذي يخدم عدوه. فقبل «طوفان الأقصى»، كانت إسرائيل تجد صعوبة في تحقيق أهدافها النهائية في غزة. وكانت تتعرّض لضغوط دولية متزايدة بسبب حصارها للقطاع. ​وكانت تدرك أنّ أي هجوم واسع النطاق على القطاع سيكلّفها الكثير سياسياً وعسكرياً، مع مصاعب عالية في إقناع المجتمع الدولي بالمهمّة. وفي الواقع، كانت استراتيجية إسرائيل تقوم في تلك الفترة على «الاحتواء»، وليس «الاستئصال» الكامل لـ«حماس»، لاعتقادها بأنّ وجود الحركة يخدم طموحها إلى خلق شقاق داخل الجسم الفلسطيني.

لكن عملية «حماس» قدّمت لإسرائيل ذريعة أخلاقية، ولو مزورة، لشن عملية عسكرية شاملة تحقق فيها الأهداف المبيتة لقطاع غزة. فقد استغلت مقتل مدنيين إسرائيليين وخطف آخرين لتحصل على دعم أميركي وغربي واسع، وتجرأت على تجاوز الخطوط الحمر التي كانت موجودة سابقاً، وقرّرت تصفية «حماس» وغزة… ومعهما ما تبقّى من ركائز الشخصية الفلسطينية في الضفة الغربية أيضاً.

لقد أتاحت العملية العسكرية لإسرائيل تحقيق أهداف كانت تبدو شبه مستحيلة: إنهاء وجود «حماس» كقوة حاكمة، وتدمير غزة، وتهجير سكانها، وربما تغيير الواقع الجيوسياسي للمنطقة بكاملها. وهنا تكمن المفارقة. فالعمل الذي نفّذته «حماس» بهدف إضعاف إسرائيل وفرض الحضور الفلسطيني على طاولة المفاوضات، أصبح في الواقع أكبر خدمة قُدّمت لإسرائيل، إذ مكنتها من تحقيق أهداف طويلة المدى.

ad

إنّ التهوّر في سلوك بعض القوى السياسية أو العسكرية غالباً ما يساعد العدو على تحقيق أهدافه، إذ يمنحه الفرصة لتجاوز القيود السياسية والأخلاقية، وتحويل النزاع من مواجهة بين قوتين إلى حملة عسكرية مُبررة ضدّ «الإرهاب» أو «التطرّف». فهل ما زلنا في لبنان نمتلك الجرأة والحكمة لنتجنب منح إسرائيل فرصة تبحث عنها منذ عشرات السنين، من أجل فرض سيطرتها الكلية أو الجزئية على لبنان وسائر الجوار؟ وهل نستيقظ ونفعل ذلك قبل أن يصبح تصحيح الخلل أمراً مستحيلاً؟
محتوى مدفوع

اترك تعليق