خيار تاريخيّ على مفترق الأزمات بين “السلاح” و”الدولة” (انطوان العويط)

بغَضِّ النَّظرِ عمّا قد تَسفُرُ عنه جلسةُ مجلسِ الوزراءِ المُرتقبة يوم الجمعة المُقبِل، والمخصَّصة لعَرضِ الخُطّةِ التّطبيقيّة لحَصرِ السِّلاحِ الموكَلة إلى الجيشِ اللُّبناني، يَتَبدّى أنّ لبنانَ يَدخلُ مرحلةً لا عُذرَ فيها لِمَن يَتأخّر أو يُسَوِّف. فمِن مَنظورِ طَيفٍ واسِعٍ من السُّلطتَينِ التنفيذيّة والتشريعيّة، ومَعَهُما قُوى سياسيّةٌ وحِزبيّةٌ وشَعبيّةٌ عَريضة، ويلتقي حولَه الفاعِلونَ في المُجتمعَينِ العَربيِّ والدُّوليِّ، تَرنُو الأبصار إلى ساعةِ الحقيقة، وإلى لَحظةٍ فاصِلةٍ تَفرِضُ على الجميعِ أن يَحتَكِموا إلى وضوحِ الموقِف وحَسمِ الخِيار، بعيدًا عن المُواربةِ والتّأجيل.
إنَّ ما يُطرَحُ اليومَ أمامَ اللُّبنانيّين لا يَندَرِج في خانة بَرامجَ إصلاحيّةٍ عابرةٍ، ولا في إطارِ خُططٍ إنقاذيّةٍ مُجزَّأة، بل هو وَرشَةٌ تأسيسيّةٌ كُبرى، مَدارُها إعادةُ تَكوينِ الدَّولةِ من جذورِها، وبِناؤُها على قَواعِدَ دستوريّةٍ وقانونيّةٍ واقتصاديّةٍ وماليّةٍ واجتماعيّةٍ راسخة، تُعيدُ إلى الكِيانِ الوطنيِّ صِدقيّتَهُ الضّائعة، وهيبتَهُ المُستَباحة، ودَورَهُ الغائبَ عن الساحتَينِ الدّاخليّةِ والخارجيّة، كما تُستَردُّ إلى أرضِه المُحتلَّة سِيادتَها، وإلى أسرَاه حُرِّيَّتَهم.
إنَّها لَحظةٌ فارِقة، تُشبِهُ مَفترَقاتٍ كُبرى فَشِلَ لُبنان في اجتيازِها، حيثُ يَغدو الخِيار إمَّا العُبور إلى دَولةٍ حديثةٍ تَستَحِقُّ الحياةَ وتَصنَعُ المُستقبَل، وإمَّا الارتهان إلى دُوّامةِ الانهيارات المُتلاحِقة التي لا تُبقِي ولا تَذَر.
غَيرَ أنّ هذا المَسارَ التاريخيَّ لن يُفتَحَ إلّا بِمُعالجةِ العُقدة الجوهريّةِ التي نَسَفَت كُلَّ المُحاوَلاتِ السّابقة، وأفرَغَت الإصلاحات من مَضمونِها: احتِكارُ الدَّولةِ وحدَها للسِّلاح، باعتِبارِه الشَّرطَ الأوَّلَ لِقيامِ سُلطَةٍ شَرعيّةٍ لا يَعلو عليها سِواها. فمِن دونِ هذا القَيد تَبقى أيُّ وَرشَةٍ إصلاحيّةٍ رهينةً ازدواجيّةٍ قاتِلة في القَرار والسِّيادة، وتَبقى الدَّولةُ مُجرَّدَ هَيكَلٍ هَشٍّ يَتَقاطَعُهُ الدّاخل، ويَتَنازَعُهُ الخارِج، ويَتَرَبَّصُ بِهِ العَدوّ. لِذلكَ، فإنَّ الانطِلاقَ من حَصرِ السِّلاحِ بِيَد المُؤسَّسات الشَّرعيّة هو الخُطوَةُ المُؤسِّسَة الَّتي تَفتَح الطَّريقَ نحوَ نَهجٍ جَديدٍ في إدارة الشَّأن العامّ واستِعادَةِ الأرض، قائِمٍ على وَحدة السُّلطة، وعَدلِ المُشارَكة، وصَلابَةِ المُؤسَّسات.
ومن وَجهةِ النّظرِ اللبنانية والعربية والدّولية، تُشكّل مثل هذه المعطياتُ وغيرها، فُرصةً تاريخيّةً نادرةً، قلّما تَتكرّر. فالمَعرَوضُ اليومَ على “حزبِ الله” ليسَ إملاءً بالإخضاعِ ولا وَصفةً للاستسلامِ، بل هو مَخرَجٌ يُحافِظُ له على مَوقِعِه السياسيّ وكَيانه الاجتماعيّ، ويُتيحُ له البقاءَ لاعبًا وازنًا في المُعادلة الوطنيّة، تمامًا كما يُمثّل فُرصةً حقيقيةً للبنانيّين وللدولةِ اللّبنانيّة، ليتقدّموا نحو مرحلةٍ من وضوحِ الخيارات، وبناء الدولة على قواعدِها الصحيحة.
لَقَد انتهتِ الحرب إلى ما انتهتْ إليه، وما أعقَبَها من انتهاكاتٍ واغتيالاتٍ وغاراتٍ مُستمرّةٍ، يُثبِتُ أنّ المأزقَ القائم لا يُحلّ بالمناورات، ولا بكسب الوقت. بل المَطلوبُ مُراجعةٌ شاملةٌ، وَقرارٌ استراتيجيٌّ جريءٌ بالسير إلى الأمام، بما يُنهي هذه الحالة، ويُحافِظُ لكيانٍ مُجتمعيٍّ مُؤسَّسٍ للوطنِ كرامتَهُ ووجودَه، كما للكياناتِ الأخرى، لكن تحتَ عباءة الدولة اللّبنانيّة.

هنا، يَدْفَعُ المنطق إلى رَفْعِ الأسئلة الحاسِمَة: هل يَمتلِكُ السلاح خارجَ الدولة، في واقعٍ يَستحيلُ تغييرهُ عسكريًا، أيَّ قيمةٍ رَدعيّةٍ أو قدرةٍ دِفاعيّةٍ حقيقيّةٍ بعد اليوم؟ وإن كان كذلك، لماذا لم ولا يُستَخدَمْ؟ وإذا كانَ الهدف إعادةُ بناءِ الدولةِ واستعادةُ السيادةِ كاملةً، وإطلاقُ مسارِ الإعمارِ، وتثبيتُ شراكةٍ وطنيّةٍ في أفضلِ السبلِ لإيجادِ تطويرٍ على قاعدةِ المشاركة التعدّدية في إدارة البلاد، فهل يَبقى السلاح الموازيّ وسيلةً لتحقيقِ ذلك أم عائقًا جوهريًّا دونه؟ وكيفَ يُمكنُ لدولةٍ أن تقومَ أصلاً في ظلِّ سلطةٍ مُسلّحةٍ رَديفةٍ تُناقضُ منطقَها؟
الجواب يكاد يكون بديهيًّا. فمسألةُ السلاحِ كانَ يُفترضُ أن تُطوَى منذ اتفاق الطائف الذي دشّنَ الجمهوريةَ الثانيةَ، لكنّ الأمرَ لم يَتمّ.
الفارقُ أنّ “حزبَ اللهِ” اليومَ داخليًّا، ليسَ في موقعِ قوىً أُخرى سُلِمَ سلاحها بعد الطائف، وتعرّضت للنفي والسّجن وأو للقمعِ والتّنكيلِ والإقصاء والاضطهاد والاغتيالات على يد النظامِ الأمني السوري – اللبناني وحلفائِه. على العكسِ، فإنّ الحزبَ شريكٌ كاملٌ في سلطةٍ وطنيةٍ متوازنةٍ وغيرِ مرتهنة، ويمتلك واحدةً من أوسع الكتل النيابية. كما حُفِظت كوادرُه السياسيةُ والنيابيةُ، وحظي برسائلَ دوليةٍ واضحةٍ تُرحّبُ بتحوّلهِ إلى حزبٍ سياسيٍّ يُمارس دوره ضمنَ قواعدِ اللعبةِ الديمقراطية، وهو ما أكّده علنًا الموفدُ الرئاسيُّ الأميركيُّ طومُ بارّاك.
بِهذَا المَعنى، يَملِك الحزب اليومَ خيارًا استثنائيًّا لم يَتوفّر لغيرهِ، في أن يُحافِظَ على كيانِه وخصوصيّتِه وحضورِه السياسيِّ، وفي الوقت نفسه أن يَفتحَ البابَ أمامَ الدولةِ لتستعيدَ دورَها كامِلًا. وهو اتجاهٌ، إذا ما سلكَهُ، سَيُوفّرُ انطِلاقةً لورشة إعادة إعمارٍ وطنيٍّ شاملٍ تمتدُّ من الجنوبِ إلى كاملِ تراب الوطنِ، تُعيدُ الناس إلى قراهم ومدنهم، تُحييَ القطاعاتِ العمرانيّةَ والإنتاجيّةَ والاقتصاديّةَ، وتَسترجعُ الأرضَ المُحتلّةَ، ولِلبنانِ مكانتَهُ الإقليميّةَ والدوليّةَ.
المَسألةُ إذًا لا تُقاسُ بِحساباتٍ ضيّقةٍ بين رِبحٍ وخَسارةٍ، بل بِميزانٍ وُجوديٍّ حاسِمٍ. إمّا دولةٌ قويّةٌ جامعةٌ، وإمّا بقاءٌ في دُوّامةِ هَشاشةٍ وانقسامٍ، تُؤدّي حتمًا إلى زوال الكيانِ اللّبنانيّ بصيغتِه الراهنةِ.
اللَّحظةُ تَفرِض الجرأةَ والقرار، فالتَّاريخُ لا يرحمُ المراهنين على الوقت، ولا يُكافئُ من يُضيّعون الفرصَ النّادرةَ. وما هو مطروحٌ اليومَ أمامَ “حزبِ الله” ولبنان معًا هو السبيل الأخير لتثبيت دولةٍ فعليةٍ، أو تركُ البلادِ تَنزَلِقُ إلى مجهولٍ لا عودةَ منه.

اترك تعليق