لم يكن الانهيار المصرفي والنقدي حدثاً عابراً، بل كان الحدث الذي ظلّت المصارف تنكر احتمالات الوصول إليه ثم انتهزته عند حلوله.
صحيح أنه لم يتكشّف الكثير ممّا قامت به المصارف للتربّح من الأزمة، خصوصاً، بسبب سوء التدقيق والمحاسبة من الحكومة ومصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف. إلا أن بعض الروائح فاحت من مصرف لبنان ومن عدد محدود من المصارف أبرزها بنك الاعتماد المصرفي الذي أحيل إلى الهيئة المصرفية العليا التي عيّنت مديراً مؤقّتاً يديره، وكُلّفت شركة تدقيق بالتحقيق في حساباته.
وقدّمت الشركة تقارير عدّة، خلصت إلى وجود تزوير واختلاس. رغم ذلك، لم يُحل الملف سريعاً إلى القضاء، بل أُعطي رئيس مجلس إدارة البنك طارق خليفة، بوصفه المساهم الأكبر والمدير التنفيذي، أكثر من فرصة لتسوية الأوضاع وتغطية الأموال «ناقصة». غير أن هذا الأخير، قدّم وعوداً بضخّ نحو 30 مليون دولار في رأس مال المصرف من دون أي تنفيذ، وهذا ما دفع الهيئة، في أول جلسة لها برئاسة الحاكم كريم سعيد، إلى الادّعاء المباشر عليه.
التدقيق يتحدّث عن تزوير موثّق، يشمل عشرات العمليات التي نفّذتها إدارة المصرف مع مصرف لبنان وفي السوق لتحقيق أرباح طائلة، وقد استُعمل قسم كبير منها في محاولة لزيادة رأس المال عبر مقدّمات نقدية. وتبيّن أن الملف الذي أرسلته الإدارة إلى هيئة التحقيق الخاصة لدى مصرف لبنان، تضمّن كشوفات حساب محذوفةً منها هذه العمليات، ثم تبيّن أن هناك حسابات «مُقيّدة» لا يمكن الوصول إلى تفاصيل العمليات التي نُفّذت فيها.
كما تبيّن أن الهدف من هذه العمليات إنتاج أرباح سوقية بالتوازي مع «سواب» مع مصرف لبنان، لإنتاج أرباح استُخدمت في زيادة رأس المال وتغطية خسائر البنك، بينما نسبة أخرى ذهبت إلى جيوب كبار المتموّلين على رأسهم مجموعة من عائلة حمدون.
وبحسب الوقائع المتصلة بهذه القضية، فإن ما حصل يمكن تجزئته إلى قسمين؛ الأول يتعلق بالعمليات التي نفّذها المصرف من أجل تمويل التزامات خارجية بقيمة 35 مليون دولار. ثم الجزء الثاني المتعلّق بالاتفاق مع مصرف لبنان على عمليات «سواب» التي استُعملت بهدف زيادة رأس المال.
مع بداية الأزمة المصرفية، كان بنك الاعتماد المصرفي يعاني من التزامات خارجية بقيمة تتجاوز 35 مليون دولار. يومها طلب طارق خليفة من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، تمويلاً لتغطية هذه الالتزامات أسوة بما حصلت عليه مجموعة من المصارف (نحو 7.5 مليارات دولار) لتسديد التزاماته الخارجية.
لكنّ سلامة لم يوافق على الطلب، فاندفع المصرف إلى عمليات سوقية تُدرج في خانة المضاربة على العملة، فاشترى بتمويل من سيولته الخاصة مبلغاً من الدولار النقدي قيمته 35 مليون دولار لتغطية الالتزامات الخارجية.
عملياً كان لدى المصرف مبلغ كبير من الدولارات المصرفية التي حُسمت في السوق وتحوّلت إلى دولارات نقدية، ما أنتج خسائر ضخمة في الميزانية.
وفي هذا الوقت، كان مصرف لبنان قد أصدر تعميماً رقمه 154 يفرض على المصارف زيادة رساميلها بمقدّمات نقدية وتغطية الودائع لديها بنسبة 3% في حسابات لدى المصارف المراسلة. هكذا عادت المسألة إلى نقطة الصفر، ما دفع خليفة إلى الطلب من مصرف لبنان معالجة المسألة.
عندها أتاح له رياض سلامة تنفيذ عمليات «سواب» تتضمّن شراء الدولارات المصرفية منه مقابل 3900 ليرة وتحويل الناتج من هذه العملية (الناتج بالليرة) إلى دولارات مصرفية مجدّداً، والاستفادة من فروقات سعر الصرف.
فالعملية التي أجراها المصرف مع مصرف لبنان كانت وفق سعر صرف يبلغ 3900 ليرة بينما كان سعر الدولار المصرفي في السوق أقلّ من 2000 ليرة.
وبحسب تقارير التدقيق المنفّذة في المصرف، فقد بلغ حجم العمليات المنفّذة نحو 142 مليون دولار، وأن الفرق في الأسعار كان في العمليات المنفّذة في المراحل الأولى في عام 2020 هو بين 3900 ليرة و1520 ليرة، ثم ارتفع السعر لاحقاً مع الحفاظ على فروقات كبيرة في السعر.
وأنتجت هذه العمليات أرباحاً كبيرة، فأودع منها 700 مليار ليرة في الشركة التي يملكها المصرف بصورة غير مباشرة (انفست برو)، ويملك الحقّ الاقتصادي فيها، علماً أنها مُسجّلة باسم وائل أبو حبيب، وسمر زيدان (المديرة التنفيذية في المصرف)، وفيليب مخيبر.
وبحسب القرار الظنّي بحق المسؤولين في المصرف، فإنه «تمّ التعامل مع هذه الأرباح على أنها مستقلّة عن المصرف ولم تدخل ميزانيته»، لكن فجأة تبيّن أن المصرف أبرز لمصرف لبنان عقوداً مع أشخاص آخرين نتج منها تحويل أموال الشركة بهدف زيادة رأس المال عبر مقدّمات نقدية «إلا أن العملية لم يوافق عليها مصرف لبنان، ثم قاموا بإبرام عقد وهمي مع السيدة شما سكّر وهي زوجة المساهم في المصارف بنسبة 20%، فادي بربر، من خلال بيع الشركة عقاراً في الدكوانة تبلغ قيمته 38.4 مليون دولار لاستعمال الأموال في زيادة رأس المال، إلا أن مصرف لبنان لم يوافق على ذلك أيضاً».
وبالتوازي، عمد فادي بربر إلى إعلان أنه تعرّض لخديعة. وعمد إلى التوجه نحو القضاء، مقدّماً ورقة تنازل عن ملكية المقدّمات النقدية المخصّصة لزيادة رأس المال باعتبار أنه تعرّض لعملية احتيال من طارق خليفة ومحامي المصرف الذي «أكّد لي أن هذه الآلية قانونية».
الأمر لا يقتصر على ذلك، فقد تبيّن أن عمليات «السواب» التي نفّذها المصرف على مرحلتين، أولاهما مع مصرف لبنان وثانيتهما في عمليات سوقية، تمّت بواسطة حسابات للزبائن بعلمهم أو بغير علمهم.
وتشير التحقيقات إلى أن بعضم استفاد من خلال شطب ديونه على المصرف، وبعضهم استفاد من خلال سحب توزيع الأرباح الناتجة من العمليات بين مسؤولي المصرف وبينهم وسُحبت نقداً، وبعضهم لم يكن لديه علم بأي شكل من الأشكال أن هذه العمليات تُنفّذ على حساباتهم إلى درجة أن الكشوفات التي قدّمتها إدارة المصرف كانت تخفي قيود هذه العمليات، وأن بعض الحسابات كانت «مُقيّدة»، أي لم يكن ممكناً لأي موظّف في المصرف الاطّلاع عليها إلا خليفة وزيدان.
ما حصل في بنك الاعتماد المصرفي لم يكن سوى حفلة اختلاس مال عام وخاص، مرّة بالتواطؤ بين خليفة وسلامة، ومرّة أخرى بالتواطؤ بين خليفة وزيدان والزبائن ومن بينهم أفراد من عائلة حمدون ومن عائلة حمد وغيرهم، ومرّة بغير علم الزبائن.
فمن الواضح أن عملية زيادة رأس المال التي استعملت فيها شركة «انفست برو» لم تكن عملية ضخّ للأموال من جيوب المساهمين، بل كانت من نواتج الأرباح الناتجة من عمليات نفّذها المصرف مع مصرف لبنان وفي السوق، ومن الواضح أن العمليات التي نُفّذت على حسابات الشركات التي يملكها سليم الخليل، وهو الوسيط الذي بواسطته يقوم مصرف لبنان بجمع وضخّ الليرات والدولارات من السوق، تمّت بغير علمه، وفق تقرير التدقيق.
«الأخبار» تنشر بعض ما ورد في التحقيقات التي تتضمّن عمليات معقّدة وتحويلٍ من حساب إلى آخر، وتحويل من ليرة إلى دولار بأسعار مختلفة، وبأسماء حسابات زبائن، كما وردت في هذه التحقيقات، ومن دون أي تدخّل واسع، إلا لزوم توضيح بعض العمليات نظراً إلى تعقيدها. لكن في المجمل تكشف هذه العمليات جانباً مما حصل في السوق بين مصرف لبنان والمصارف في تلك الفترة، وهو جانب لا يغطّي سوى بضعة أشهر مظلمة في عملية السرقة الجماعية التي قادها مسؤولون سياسيون وتقنيون مع المصارف.