لبنان: سباق الحرب أو التّفاوض

حلّت مورغان أورتاغوس في لبنان وسبقتها الإنذارات والتهديدات، مع جزرة التفاوض مع إسرائيل توفيراً لتصاعد ضرباتها عليه. كانت الموفدة الأميركيّة الأولى التي طرحت مسألة التفاوض في آذار الماضي. تتزامن زيارتها مع سعي بنيامين نتنياهو إلى انتزاع الاستقلاليّة في قراراته حيال لبنان، مقارنة مع إلزام دونالد ترامب إسرائيل بعدم تجديد الحرب في غزّة. الخشية هي أن يهدف رفع مستوى التفاوض بإشراك مدنيّين، سياسيّين أو دبلوماسيّين، إلى تغيير اتّفاق الهدنة (1949) الذي يتمسّك به لبنان.

تقلّبت التسريبات عمّا ترمي إليه إسرائيل من طلبها رفع مستوى التفاوض مع لبنان. في الأشهر الماضية نقل المطلب، إضافة إلى أورتاغوس، جهات عدّة منها الفرنسيّون، والمنسّقة الخاصّة لأنشطة الأمم المتّحدة في لبنان جنين هنيس بلاسخارت وغيرهم.

لا تطبيعَ بل كسرٌ لـ”التابو”؟

من الرسائل التي نُقلت إلى بيروت أنّ التفاوض يبقى غير مباشر، في إطار لجنة “الميكانيزم” الخماسيّة، ولا يعني تطبيعاً أو البحث في اتّفاق سلام. تفسير ذلك أنّ تل أبيب ليست مستعجلة على السلام مع لبنان وغير مهتمّة، لأنّ ثمّة دولاً عربيّة أكثر أهميّة تسعى إلى اتّفاقات سلام معها وتدرك الخلفيّة الإيرانيّة لأيّ قرار لبنانيّ في هذا الصدد.

بعض من نقلوا الإلحاح الإسرائيليّ على رفع مستوى التفاوض أرادوا طمأنة لبنان، أي أنّ صيغة التفاوض تمرّ عبر الآليّة المعتمَدة منذ تشكيل اللجنة الثلاثيّة المنصوص عليها في القرار 1701 عام 2006، أي يخاطب الجانب اللبنانيّ رئيس اللجنة ولا يتوجّه بالكلام لممثّلي إسرائيل وهكذا دواليك. هذا يعني أن يجلس ممثّلو لبنان مع ممثّلي الأمم المتّحدة في مقرّها في الناقورة ومع من يمثّل إسرائيل وفرنسا برئاسة الجانب الأميركي.
تقلّبت التسريبات عمّا ترمي إليه إسرائيل من طلبها رفع مستوى التفاوض مع لبنان

ثمّ قيل كلام آخر. ترمي إسرائيل إلى كسر “تابو” الرفض اللبنانيّ للتواصل المباشر وتطلب مفاوضات مباشرة ولو بحضور أميركيّ لأجل التوصّل إلى ترتيبات أمنيّة مستدامة بموازاة سحب سلاح “الحزب”. لذلك نقل بعض حاملي الرسائل ممّن التقوا وزير الشؤون الاستراتيجيّة المقرّب من نتنياهو رون ديرمر، استعداده لحضور الاجتماعات إذا وافق لبنان على تمثيل وزاريّ يعكس استعدادات رئيس الجمهوريّة العماد جوزف عون للانخراط بالتفاوض.

حجّة عون حول لجان التّفاوض

كان للرئيس عون حجّة في مواجهة اقتراح أورتاغوس قبل 6 أشهر: لا حاجة إلى تشكيل 3 لجان للتفاوض. إذا كانت الأولى لبحث الانسحاب الإسرائيليّ من التلال الخمس، فإنّ لبنان ليس محتلّاً لأرض إسرائيليّة، بل إنّ الانسحاب منصوص عليه في اتّفاق 27 تشرين الثاني 2024 المتعلّق بوقف الأعمال العدائيّة. إذا كانت اللجنة الثانية معنيّة بإطلاق أسرى لبنانيّين، فليس لدى لبنان أسرى إسرائيليّون ليفاوض عليهم. أمّا اللجنة الثالثة المتعلّقة بترسيم الحدود البرّية، فلا مانع من مشاركة شخصيّة مدنيّة أو دبلوماسيّة خبيرة بمسألة الخرائط فيها، إضافة إلى ممثّلي الجيش، كما حصل إبّان التفاوض على الحدود البحريّة.

لبنان

لكنّ الانشغال الأميركيّ بترتيبات سحب السلاح طغى على اقتراح أورتاغوس، بفعل ورقة توم بارّاك التي استغرق الأخذ والردّ فيها زهاء أربعة أشهر. لم يفلح الموفد الأميركيّ في أن ينتزع من إسرائيل موافقة على مطلب رئيس البرلمان نبيه برّي أن توقف تل أبيب انتهاكاتها لاتّفاق 27 تشرين الثاني عبر عمليات “القتل” لناشطي “الحزب” وقصف مواقع مدنيّة ولو لـ15 يوماً يتعهّد بنهايتها برّي بالمساعدة على التطرّق إلى مسألة سحب السلاح مع قيادة “الحزب”. أعقب ذلك اقتراح أن تكون مهلة وقف “القتل” شهرين، من دون تجاوب نتنياهو.
تل أبيب ليست مستعجلة على السلام مع لبنان وغير مهتمّة

عون يحاول فتح ثغرة

أعلن الرئيس عون في 13 تشرين الأوّل استعداد لبنان للتفاوض غير المباشر، لكسر الانطباع الذي ساد في أوساط الدبلوماسيّة الأميركيّة ومعاوني ترامب بأنّه يهادن “الحزب” في رفضه سحب السلاح. كان موقفه محاولة لدفع واشنطن إلى خفض تصعيد إسرائيل للغارات ضدّ لبنان. يحاول الرئيس اللبنانيّ الإفادة من المناخ الذي صنعه ترامب بعد اتّفاق وقف الحرب في غزّة، لفتح ثغرة في جدار التهديدات الإسرائيليّة بشنّ حرب جديدة ضدّ “الحزب” ومواقعه شمال نهر الليطاني. وظهرت الإشارات إلى ذلك في غاراته الأخيرة على البقاع.

تعقيدات تحيط بزيارة أورتاغوس

تحيط بزيارة أورتاغوس وزيارة رئيس الاستخبارات المصريّة حسن محمود رشاد للبنان، ثمّ الزيارة المرتقبة لتوم بارّاك، تعقيدات لا تُحصى تتّصل بإمكان تفادي تفجير إسرائيل للجبهة مع لبنان، أو إمكان فتح ثغرة لتفادي التصعيد، ومنها:

1- إذا كانت منطقيّةً المراهنة على أنّ المرحلة الفاصلة عن زيارة البابا ليون الرابع عشر للبنان آخر شهر تشرين الثاني المقبل فسحة للبحث عن مخارج لمسألتَي السلاح والتفاوض، فإنّه لا ضمانات بأنّ إسرائيل لن تقدم على تفجير الوضع قبل هذا التاريخ.

يسأل أحد السياسيّين المتابعين بدقّة للمناخ الأميركيّ الإسرائيليّ: “قبل شنّ إسرائيل الحرب المدمّرة على لبنان آخر الصيف الماضي كانت حسابات “الحزب” وغيره أنّ إسرائيل غير قادرة على فتح جبهة لبنان إضافة إلى غزّة، فخابت تلك الحسابات. وخابت أيضاً مراهناتٌ على أنّ واشنطن لن تفرض انسحاب قوات “اليونيفيل” من الجنوب، وذلك بالتسوية في آب الماضي لمصلحة إنهاء مهمّتها آخر 2026. لذا على لبنان أن يتصرّف على أساس فشل الحسابات السابقة”.
الانشغال الأميركيّ بترتيبات سحب السلاح طغى على اقتراح أورتاغوس، بفعل ورقة توم بارّاك التي استغرق الأخذ والردّ فيها زهاء أربعة أشهر

2- المطلب الإسرائيليّ الجوهريّ في أيّ تفاوض هو تعديل اتّفاق الهدنة لأنّ ترتيباته الأمنيّة لم تعُد صالحة بعد 76 سنة. يسمح للبنان مثلاً أن يحتفظ بكتيبتين وسريّتين من الجيش النظامي، وبطّارية ميدان واحدة مؤلّفة من أربعة مدافع، وسريّة مؤلّفة من 12 سيّارة خفيفة مصفّحة مسلّحة بمدافع رشّاشة، وستّ دبّابات خفيفة مسلّحة بمدافع خفيفة (20 عربة). يُسمح لإسرائيل بنشر كتيبة مشاة وسريّة مساندة و6 مدافع مورتر و6 مصفّحات و6 جيبات مصفّحة، ولا يتعدّى عدد الجنود 1500 مثل لبنان.

أين الواقع الحاليّ من هذه الترتيبات في ظلّ وجود الطائرات المسيّرة وأنواع الأسلحة التي يتمتّع بها “الحزب” والجيش الإسرائيليّ؟ ومع أنّه ثبّت الحدود الدوليّة حتّى اجتياح إسرائيل الجنوب في 1982، فإنّ إسرائيل تطمح إلى تغييره.

اترك تعليق