تؤكد المعلومات أن “الحزب” يريد أن يكون هو في صلب فريق التفاوض من خلال شخصية موثوقة منه كي يملي شروطه على طاولة المفاوضات وأول هذه الشروط عدم المس بسلاحه الذي لا يبحث إلا في إطار حوار داخلي. وتشير مصادر دبلوماسية رفيعة إلى أن “الحزب” يسعى أيضًا للحصول على مكتسبات داخلية وضمانات إقليمية كي يقبل أيضًا بفكرة التفاوض وهذا ما لم يحصل عليه.
وفي انتظار تعبيد الطريق أمام مرحلة تفاوضية لا مفر منها، تتحدث المعلومات عن تصور رئاسي بدأ يتبلور لإعداد فريق تفاوضي جديد يضم شخصيات ذات خلفية سياسية، من بينها رئيس معهد الشرق الأوسط في واشنطن بول سالم.
نحو تفاوض مع إسرائيل وحصر للسلاح بيد الدولة
يرى متابعون لموقف الرئيس عون من التفاوض أن هذا القرار يأتي لا من موقع الضعف، بل من موقع الواقعية السياسية التي تفرضها الانهيارات المتتالية، وهو ليس تطبيعًا بل استعادة لحق الدولة في القرار والسيادة، تمامًا كما فعلت دول واجهت ثم فاوضت، من دون أن تفرّط بكرامتها أو حقوقها.
ويعتبر المتابعون أن التفاوض مع إسرائيل بات ضرورة وطنية، لا ترفًا ولا خيانة لأن رئيس الجمهورية يدرك أن الإصلاح والاستثمار والإنقاذ المالي والدعم الخارجي وإعادة الإعمار تبدأ بتفاوض جدي، ولا تنتهي إلا باستعادة الدولة قرارها وحصر السلاح بيد المؤسسات الشرعية.
من هنا، يرى رئيس الجمهورية أن التفاوض مع إسرائيل ليس تنازلًا عن الحقوق، بل هو تثبيت لها، على غرار ما حصل في اتفاق الترسيم البحري عام 2022. وأسفر ذلك وقتها عن اتفاق اعتبر إنجازًا تاريخيًا لبى المطالب اللبنانية وحفظ كامل الحقوق السيادية في الموارد الطبيعية. وقد حصل لبنان على منطقة الـ 860 كم² المتنازع عليها كاملة بما فيها حقل قانا، مع ضمانات دولية ببدء التنقيب فورًا.
وهذا برهان على أن رفض التفاوض أو تأجيله إلى أجل غير مسمّى، قد يفوّت فرصًا ثمينة ويحمّل الأطراف كلفة باهظة. ففي حالة لبنان وإسرائيل، لو لم يتم ترسيم الحدود البحرية تحت ضغط الفرصة السانحة، ربما أصبح تحقيقه مستقبلًا مستحيلًا علمًا أن التخلي عن خيار التفاوض آنذاك كان سيعني بقاء لبنان محرومًا من ثروته الغازية البحرية، واستمرار إسرائيل في استخراج الموارد منفردة تحت حماية الأمر الواقع.
ويستغرب المتابعون كيف أن مجرّد الحديث عن مفاوضات اعتبره “حزب الله” تطبيعًا مقنّعًا، في حين أنه هلّل للاتفاق البحري وهو يعلم جيدًا أن الرئيس لا يدعو إلى توقيع سلام، بل إلى وقف الانهيار عبر فتح قنوات واقعية تحمي المصالح اللبنانية.
التفاوض: واقعية تنقذ الدولة أم تحدّ للدويلة؟
من ينظر إلى تجارب الدول المجاورة يدرك أن التفاوض لم يكن نهاية الكرامة، بل بداية الدولة.
– التجربة المصرية – الإسرائيلية (1979): أفضت مفاوضات كامب ديفيد ومعاهدة السلام إلى إنهاء صراع دام عقودًا واستعادة مصر كامل أراضيها المحتلة في سيناء بوسائل دبلوماسية. ورغم أن السلام الناتج كان باردًا وبقي محدود التطبيع الشعبي، فقد التزمت به حكومتا البلدين لما حققه من مصالح استراتيجية. فضمنت إسرائيل أن أكبر دولة عربية وجيشها الجرار خرجا من دائرة الحرب معها، فلم تشن أي حرب عربية عليها منذ 1973. وبالمقابل، جنت مصر مكاسب كبرى: وفرت على نفسها كلفة حروب جديدة واستفادت من دعم اقتصادي وعسكري أميركي تجاوز 70 مليار دولار منذ 1979. ويظهر ذلك أن التفاوض الجاد تحت رعاية دولية يمكن أن ينتج اتفاقًا يصون المصالح الوطنية دون أن يعد استسلامًا؛ بل هو تسوية تاريخية أنهت حالة الحرب وخلقت وضعًا أكثر استقرارًا، حتى وإن ظل السلام غير دافئ.
– الأردن وقع اتفاق السلام عام 1994، وحافظ على حدوده وأمنه، واستفاد من دعم اقتصادي وعسكري مكّنه من حماية استقراره في المنطقة رغم كل الاضطرابات.
-قبرص واليونان تفاوضتا مع إسرائيل حول الحدود البحرية، فحولتا شرق المتوسط إلى ساحة تعاون طاقوي ضخم.
وفي المقابل، يعيش لبنان في عالم آخر، والنتائج ستكون كارثية تبدأ باستمرار الانهيار الاقتصادي والمالي مرورًا بسقوط أي مساعدات خارجية ومنعه من استخراج نفطه وصولًا إلى استمرار الاستنزاف الأمني وعدم القدرة على إعادة الإعمار.
من هنا، فإن الدخول في مرحلة تفاوض منضبط ووطني سيفتح آفاقًا اقتصادية وأمنية غير مسبوقة:
– استقرار حدودي يسمح بعودة الثقة الدولية والاستثمارات الخارجية.
– فرصة لاستغلال الغاز البحري وتطوير البنية التحتية.
– إعادة تفعيل العلاقات الدولية واستعادة ثقة الغرب بلبنان كدولة لا كمنصة نفوذ إيرانية.
– تحسين مناخ الثقة الدولي، ما يسهل التفاوض مع المؤسسات المالية (كصندوق النقد الدولي).
إذًا، لبنان أمام خيارين لا ثالث لهما:
إما الاستمرار في سياسة الانتظار والعجز، وإما الانخراط بتفاوض منظم، تقني وسيادي في آن، يمنحه فرصة نادرة لكسر الحلقة المفرغة والخروج من المجهول.
إنها لحظة الحقيقة: والتاريخ لا يرحم.


















