مافيا مكاتب الاستقدام: هكذا «تُباع» العاملات المنزليات

بحث وزير العمل محمد حيدر قبل أيام مع نظيره الفليبيني هانز ليو كاكداك في تنظيم العمالة الفليبينية في لبنان. الخطوة جيدة بعد تنظيم قطاع العمل المنزلي على المستوى القانوني والأمني.

غير أنّ حال القطاع يتطلّب معالجة جذرية تبدأ أولاً بتفكيك مافيات مكاتب الاستقدام التي تستغلّ العاملات، في ما يشبه الإتجار بالبشر، لمراكمة أرباح سريعة «تجاوزت الـ400 مليون دولار عبر إدخال أكثر من 400 ألف عامل إلى لبنان في السنوات العشر الأخيرة»، وفقاً لما أكد رئيس جهاز أمني سابق لـ «الأخبار».

ولا ينفي نقيب مكاتب استقدام العاملات جوزيف صليبا أن القطاع أصبح «بيئة خصبة للإتجار بالبشر»، مشيراً إلى أن الأجهزة المعنية، بما فيها الضابطات العدلية، لا تضع هذا الملف ضمن أولوياتها، بينما تتغاضى بلديات عدة عن تأجير الشقق للعمال الأجانب من دون مستندات قانونية، ما أدّى إلى تغيّر هوية بعض الأحياء بفعل الكثافة السكانية للأجانب فيها.

ورغم غياب إحصاء دقيق لعدد العاملات غير الشرعيات، تشير معلومات قوى الأمن الداخلي إلى ارتفاع عدد بلاغات فرار العاملات في المدة الأخيرة، لافتة إلى أن نسبة كبيرة منها لا تتعلق بحالات سرقة كما كان سائداً سابقاً.

وتروي سيدة لـ«الأخبار» مثلاً عن هروب عاملة إثيوبية كانت تعمل لديها «من دون أن تأخذ شيئاً.

خرجَت بحجة رمي النفايات، واستقلت سيارة كانت بانتظارها. بعد أيام، اتصلت السفارة الإثيوبية وطالبتني بأوراق العاملة، وأجبرتني على دفع ثمن تذكرة سفرها».

المفارقة أن السيدة كانت قد وقّعت عقداً لمدة عامين مع مكتب لاستقدام العاملات بقيمة 2500 دولار، لكن المكتب رفض التعويض بحجة أنها سمحت للعاملة بحيازة هاتف، وهو بند يستغله كثير من المكاتب للتنصّل من أي مسؤولية، ويلغي تلقائياً ضمانة الهرب التي تقع على عاتق المكتب.

أرباح القطاع غير الشرعية فاقت الـ400 مليون دولار في السنوات العشر الأخيرة

تشير الزيادة الملحوظة في حالات فرار العاملات المنزليات إلى وجود خطط ممنهجة تنفذها مافيات منظمة، تهدف إلى تهريب العاملات وتشغيلهن في أعمال غير قانونية تمسّ بالأمن الاجتماعي والآداب العامة، أو فتح المجال أمامهن للعمل الحرّ مقابل عمولات تجنيها المكاتب نفسها. ويشرح مصدر في شعبة الأمن القومي في الأمن العام أن بعض المكاتب تتقاضى نحو 4000 دولار لقاء إدخال العاملة إلى لبنان، ثم تسارع إلى تقديم بلاغ فرار بحقها، ما يتيح لهذه المكاتب التهرب من الرسوم السنوية المتوجبة، ويطلق يد العاملة للعمل بشكل حر. وعند انكشاف أمر المكتب، يقوم أصحابه بإغلاقه وفتح آخر تحت اسم جديد.

هذه الممارسات تطوّرت إلى مافيات متشعبة، تضم مكاتب شرعية وغير شرعية ووهمية، داخل لبنان وخارجه، تتعاون مع شبكات دعارة ومخدرات ونوادٍ ليلية.

وتفيد مصادر أمنية أن هذه الشبكات، التي تستدرج العاملات لأعمال غير قانونية، تضم لبنانيين وسودانيين وسوريين، وتتمركز في برج حمود والمعاملتين والدورة والجناح.

وتدفع هذه الشبكات مبالغ سنوية لمكاتب تنظيف لتجديد إقامات العاملات، عبر تسجيلهن شكلياً كعاملات في الخدمة المنزلية.

وتؤكد المصادر أن عدداً من هذه المكاتب ليس بعيداً من أنظار القوى الأمنية. فأحدهم، مثلاً، يدير سلسلة مكاتب ويُعد من كبار المتورطين في هذا الملف، وتم توقيفه مرات عدة، إلا أنه في كل مرة يخرج سريعاً ويواصل عمله!

وتعتمد بعض مكاتب استقدام العاملات طرقاً عدة للتحايل على القانون، وتجاوز الـ«كوتا» المحددة من وزارة العمل، والتي لا تتجاوز غالباً الـ 200 عاملة للمكتب الواحد سنوياً. ويتم ذلك عبر تسجيل العاملات على أسماء مكاتب أخرى لم تصل إلى الـ«كوتا» المحددة لها بعد، أو عبر التحايل بالشراكة مع مطاعم وشركات، وأحياناً بالاستفادة من علاقات سياسية أو أمنية أو حزبية لبعض أصحاب المكاتب.

لكن، وفقاً للمصدر الأمني، فإن «الأسلوب الأخطر» يكمن في إدخال العاملة إلى لبنان على اسم «كفيل وهمي»، أي مواطن عادي يتقاضى حوالى 200 دولار مقابل تسجيل العاملة باسمه. بهذه الطريقة، يتفادى المكتب تجاوز الـ«كوتا» الرسمية، ويقلّل من احتمالات لفت الانتباه إليه، خصوصاً عند تكرار حوادث الهروب. في هذه الحالة، تصبح العاملة التي تُسمّى في السوق بـ«الجاهزة» سلعة تُباع بسعر أعلى، إذ يمكن أن تصل كلفة تشغيلها إلى 600 دولار شهرياً.

ويلفت المصدر أنّه جرى إنشاء مكتب وسيط في منطقة فردان يعمل حصراً في هذا المجال، إذ يتم تسجيل جميع تأشيرات دخول العاملات وإقاماتهن باسم كفلاء وهميين.

تقع العاملات الأجنبيات في مصيدة شبكات الإتجار عبر أساليب متعددة وممنهجة، منها إبلاغ العاملة كذباً بانتهاء عقدها مع العائلة التي تعمل لديها، ثم نقلها إلى مكتب في منطقة بعيدة لتفادي ملاحقتها، ومن هناك يبدأ استغلالها، غالباً عبر تشغيلها بنظام الأجر اليومي في أعمال مختلفة.

الاحتيال العاطفي عبر الوعد بالزواج، الذي ينتهي في كثير من الحالات بـالاغتصاب، ليجري بعدها إجبارها أو إغراؤها بالأموال للعمل في شبكات الدعارة، أو استغلالها في ترويج المخدرات في الملاهي الليلية ومناطق تجمع الأجانب.

في المقابل، تقع بعض مكاتب الاستقدام اللبنانية نفسها أحياناً ضحية احتيال من مكاتب أجنبية لإدخال عاملات إلى لبنان من أجل العمل الحرّ.

ويتحدث أحد أصحاب المكاتب أن مكتباً في أديس أبابا، «عرض عليّ تأمين عاملات مقابل 400 دولار شهرياً للعاملة الواحدة، وهو سعر منخفض، على أن يقع على عاتقي تخليص المعاملات. وبعدما أنهيت الإجراءات القانونية والمالية، فوجئت بفرار العاملات تباعاً بعد أسابيع عدة».

وهكذا، يتحمّل كل من العاملات، وأصحاب المنازل، ومكاتب الاستقدام جزءاً من تبعات الفوضى والانفلات. وقد حاول وزير العمل السابق مصطفى بيرم ضبط هذا القطاع عبر إقفال 120 مكتباً من أصل 640. فهل يستكمل الوزير الحالي المهمة؟

اترك تعليق