في ختام الزيارة الأخيرة، أشاد وفد الصندوق الدولي بتعديل السرية المصرفية واعتبره تقدمًا مهمًا، مع تأكيده أن لبنان ما زال بحاجة إلى تنفيذ إصلاحات أوسع تشمل إعادة هيكلة القطاع المصرفي، توحيد سعر الصرف، ضبط الإنفاق العام وتعزيز استقلالية القضاء لمكافحة الفساد، إضافة إلى تطوير سياسات نقدية شفافة ومستقرة.
منذ إدراجه على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي FATF في تشرين الأول 2024، يواجه لبنان اختبارًا ماليًا حساساً يكشف عمق أزمته البنيوية، ويطرح تساؤلات جديّة حول قدرته على تنفيذ إصلاحات كفيلة بإعادة ثقة المجتمع الدولي.
اللائحة الرمادية، المخصصة للدول التي تعاني من قصور استراتيجي في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، أبقت لبنان تحت الرقابة المتزايدة وفق آخر تقرير صادر عن FATF في حزيران 2025، رغم تقديمه خطة إصلاح تمتد حتى عام 2026.
وتُعزى أسباب الإدراج إلى مجموعة من العوامل البنيوية، أبرزها غياب جهاز رقابي فعّال، وضعف في تنفيذ القوانين المرتبطة بالشفافية المالية والرقابة على حركة الأموال، إلى جانب ثغرات تشريعية وتنفيذية تسمح بمرور التمويل غير المشروع عبر النظام المالي اللبناني.
البعض اعتبر هذا الوضع انعكس سلبًا على علاقة لبنان بالمصارف الدولية، حيث سُجّل تراجع في تعاون البنوك المراسلة، إلى جانب ارتفاع كلفة التحويلات المالية من وإلى لبنان، وتشديد القيود على حركة أموال الشركات والمؤسسات التجارية والإنسانية، ما يزيد من خطر تعميق الشلل الاقتصادي في بلد يعتمد بشكل كبير على التدفقات المالية الخارجية. ولكنّ آخرين أكدوا أن لا تأثيرات كبيرة من جراء اللائحة الرمادية، على اعتبار أن التشدّد في العلاقة مع لبنان أصبح قائماً منذ توقف الدولة اللبنانية عن دفع اليوروبوندز، وإعلان لبنان دولة ممتنعة عن دفع ديونها، وخفض تصنيفها الائتماني إلى مستوى الإفلاس الانتقائي. لذلك، يرى هؤلاء أن المخاطر الحقيقية تكمن في احتمال انتقال البلد من اللائحة الرمادية إلى اللائحة السوداء.
وتبقى الأنظار موجّهة إلى مدى التزام لبنان بتنفيذ إصلاحاته ضمن الإطار الزمني المحدد، وسط شكوك واسعة من قبل المجتمع الدولي والمراقبين الماليين حيال جدّية الخطوات المرتقبة.
رأي خبير
في هذا الاطار، يشرح د. راند غياض، الخبير الاقتصادي الدولي والأستاذ المحاضر في جامعة هارفرد، لـ “نداء الوطن”، تداعيات إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF)، ويقيّم الإصلاحات الأخيرة ويعرض خريطة طريق متكاملة للخروج من الأزمة.
يقول غياض: “التأثير الفوري لإدراج لبنان على اللائحة الرمادية يعتبر ضربة قاسية لمصداقيته. هذا التصنيف يبعث برسالة واضحة إلى المؤسسات المالية العالمية بأن لبنان لا يزال مصنفًا كدولة عالية المخاطر من حيث غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ما يجعل من الصعب جدًا على المصارف اللبنانية الحفاظ على علاقاتها مع المصارف المراسلة الأجنبية أو إعادة بنائها. وهذه العلاقات أساسية لمعالجة المعاملات بالدولار، ودعم التجارة، والتعامل مع تحويلات المغتربين”.
يضيف: “ومع مرور الوقت، تصبح العواقب أكثر عمقًا. فالمستثمرون بطبيعتهم يتجنبون الدول المصنفة على أنها تفتقر إلى الشفافية المالية، كما تواجه المصارف العاملة في لبنان تدقيقًا أكبر وتكاليف امتثال أعلى. والنتيجة هي أن الاقتصاد اللبناني، الهش والمعزول أصلًا، يصبح أكثر انقطاعًا عن التدفقات المالية العالمية. وهذا لا يلحق الضرر بالمصارف الكبرى فحسب، بل يطال أيضًا الشركات والمستوردين والمواطنين العاديين الذين يعتمدون على نظام مالي يعمل بشكل طبيعي”.
اصلاحات على الورق
في تقييمه للإصلاحات التي أقرها لبنان أخيرًا، يعتبر غياض أنها خطوة إيجابية لكنها غير كافية. ويشرح: “مثلًا، التعديلات الأخيرة على قانون السرية المصرفية حسّنت من قدرة بعض الجهات الرقابية على الوصول إلى المعلومات، لكنها ما زالت تتضمن العديد من القيود والاستثناءات. كما أن المؤسسات الرئيسية مثل هيئة التحقيق الخاصة وهيئة مكافحة الفساد لا تزال تفتقر إلى الاستقلالية والصلاحيات التنفيذية اللازمة لتكون فعالة وقادرة على فرض القانون بمصداقية”.