هل من استدراج للبنان إلى الصراع مجدداً؟

يبدو لبنان كأنه يعود إلى “صراع المحاور” رغماً عن إرادته، وفي ظل كل محاولاته للابتعاد عنها. إنها المرّة الأولى التي تخرج فيها الدولة اللبنانية على لسان مسؤوليها وعلى نحوٍ مباشر لتعلن رفض التدخل الخارجي فيها، ورفض الانخراط في لعبة الإقليم. وإنها المرة الأولى التي يرفع فيها مسؤولون لبنانيون لهجتهم إلى هذا الحدّ في وجه مسؤول إيراني. سجال “تحييد” لبنان عن أزمات المنطقة قديم ويتجدد، لكن غالباً ما تسير الوقائع بعكس ما يشتهيه اللبنانيون. وإذا كانت لهجة المسؤولين المرتفعة رفضاً للتدخل الإيراني بالشؤون الداخلية، وسعياً للانتقال إلى مرحلة جديدة من العلاقات تتماشى مع تطورات المنطقة، فإن ذلك بإمكانه أن ينتج سجالاً داخلياً مستمراً بين القوى المتخاصمة أو المتعارضة، حول من يتدخل في شؤون البلد.

صور لاريجاني
للمفارقة، أنه في ظل السعي اللبناني الدائم لنوع من الاستقلالية أو الحيادية عن أزمات المنطقة، ولا سيما بعد قرار الحكومة بشأن حصر السلاح بيد الدولة وتكليف الجيش بإعداد خطة تنفيذية لذلك، وكلام المسؤولين عن أن لبنان قد شبع حروباً، واكتفى من دفع الأثمان المرتبطة بحسابات الخارج، تأتي وقائع مغايرة؛ حينما توزعت صورة لبنان بالأمس بين طرفين يتصارعان في المنطقة، بوقوفهما على الأرض اللبنانية.
الصورة الأولى كانت لأمين عام مجلس الأمن القومي الإيراني، علي لاريجاني. وهي الزيارة الأولى لمسؤول إيراني منذ فترة طويلة، وتأتي على وقع ارتفاع منسوب التوتر في المنطقة، لا سيما بين إيران وإسرائيل، بعد كلام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي توجه فيه إلى الشعب الإيراني حول ضرورة النزول إلى الشوارع والتحرر من النظام القائم. كما أشار نتنياهو إلى أن تل أبيب تتحضر لاحتمال تلقي ضربة من إيران في أي وقت. كلام يعيد إلى الأذهان كل السرديات التي سبقت المواجهة الإيرانية الإسرائيلية، والتي لم يتدخل فيها لبنان ونجح في تحييد نفسه عنها.
أصر لاريجاني على إعطاء أكثر من صورة في زيارته، أولها الصورة التي حيا فيها مستقبليه على طريق المطار، وهذه لها دلالاتها وإشاراتها ليبدو كأنه على أرضه ويوجه التحية لجمهوره. ثانيها، الرمزية المعنوية التي أراد إضفاءها، خصوصاً بعد أن شعر أبناء الطائفة الشيعية بأنهم مستضعفون أو متروكون في هذه المرحلة. ثالثها، سياسياً عبر التركيز على دعم حزب الله ووصفه بأنه رأس مال قوة لبنان، وأنه يجب التشاور معه في كل الملفات والتوافق بين المكونات. رابعها، ديبلوماسياً، عبر الإشارة إلى أن إيران لا تتدخل بالشأن الداخلي اللبناني، موجهاً الانتقادات للولايات المتحدة الأميركية، وللبنان ضمناً، الذي أقر ورقة باراك. خامسها اللقاءات الأخرى التي عقدها مع إعلاميين وفصائل وحزبيين من الخطّ المؤيد لطهران ومشروعها، في محاولة لإعادة رسم المشهد أو خلق توازن معين، وهو ما أراد أن يختتمه في زيارته إلى ضريح أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله.

تعطيل قرار الحكومة
الصورة الثانية كانت لرئيس أركان الجيش الإسرائيلي، الذي أيضاً وطأت قدماه أرض لبنان، في مشهدية رمزية تشير إلى أن المواجهة أصبحت في لبنان بين إيران وإسرائيل. اقتحم ايال زامير الجنوب اللبناني، وجال في النقاط والتلال التي تحتلها إسرائيل، وأطلق المواقف والرسائل التي تتضمنها، من دون الإشارة إلى الدخول في مواجهة جديدة، لكنه قال بوضوح إن إسرائيل لن تتراجع إلى الوراء.
عملياً، فإن الهدف من زيارة لاريجاني هو تعطيل مفعول قرار الحكومة اللبنانية في تطبيق خطة حصرية السلاح، والسعي إلى تأجيل ذلك أو إلغائه. في مقابل إصرار لبناني على المضي قدماً في تطبيق الخطة، من دون إغفال حجم الضغط الدولي والإقليمي.
في المقابل، فإن إسرائيل في الأساس لم تكن مقتنعة بورقة الموفد الأميركي توم باراك، وهي تنتظر البداية الفعلية لعملية سحب السلاح وخصوصاً في شمال نهر الليطاني، ولا سيما السلاح الثقيل، كي تبدأ النقاش الجدي في تطبيق الورقة أو المرحلة الأولى منها. إلا أن كل السجالات الإسرائيلية المفتوحة إعلامية، تفيد بأن تل أبيب لن تكون في وارد الانسحاب قبل أن ينتهي لبنان فعلياً من عملية تفكيك البنية العسكرية لحزب الله.
في هذا المجال، يأخذ الصراع بعده الأوسع، ليبدو كأنه يستدرج لبنان من دون إرادته إلى مواجهة جديدة، سياسية بالحدّ الأدنى، وقد ينتج عنها توترات بأشكال مختلفة في حال استمر الانسداد والتجاذب. وبذلك سيكون الملف اللبناني قد ارتبط بالسجال الإيراني الأميركي، والإيراني الإسرائيلي، إما على طاولة التفاوض، أو في ساحة القتال والمواجهة. حتى الآن إيران تنظر إلى نفسها وحلفائها بعين القوة.
الأجواء الجدية في طهران تشير إلى أن إسرائيل وافقت على وقف إطلاق النار بعد أن تعرضت لضربات فعلية في حيفا وفي بئر السبع، ولو لم تتمكن إيران من توجيه هذه الضربات، لواصلت إسرائيل عملياتها. هذا التفكير يدفع طهران إلى التشدد في موقفها أكثر، خصوصاً إذا ما كان هناك إمكانية لتجدد المواجهة، وهو ما قد ينعكس على جبهات أخرى، في حال بقي أفق التفاوض مسدوداً

اترك تعليق