سوريا خيارًا أفضل للنازحين؟

أكثر من أربعين يومًا مرّت على أوّل قافلة نظمتها المفوضية السامية لشؤون اللاجئين UNHCR ومنظمة الهجرة الدولية من ضمن برنامجها للعودة الطوعية المنسقة مع المديرية العامة للأمن العام، من دون أن تتجاوز أعداد النازحين السوريين العائدين من خلال هذا البرنامج حتى الآن الـ 400 نازح. فيما تشير مصادر الـ UNHCR إلى كون 114 ألف نازح آخرين قد أعربوا عن رغبتهم بالانضمام إلى هذا البرنامج وإلى تلقّيهم المشورة حول الخطوات العملية لذلك وتبعاتها. ومع أن الـ UNHCR تتحدث عن شطب أكثر من 238 ألف شخص من سجلات النازحين في لبنان بسبب العودة المثبتة أو المفترضة لهؤلاء، حتى قبل الحصول على دعم المفوضية، فإن مجمل هذا العدد لا يتجاوز حتى الآن العشرين بالمئة من الأعداد المقدرة للنازحين المسجلين وغير المسجلين لدى المفوضية. فهل نحن أمام تأجيل إضافي لطي هذا الملف على رغم كل الحوافز المقدمة، سواء من المفوضية ومنظمة الهجرة الدولية أو من السلطات اللبنانية الحدودية؟

إذا، من 72 نازحًا سوريًا عادوا من ضمن برنامج العودة الطوعية المنظمة في 29 تموز الماضي، ارتفع العدد إثر تنظيم قافلة ثانية لهذه العودة يوم أمس الأوّل إلى نحو 300 عائد فقط. ومع ذلك يبدو هذا الرقم، على رغم هزالته، مؤشرًا لتبلور إرادة العودة بشكل أكبر في أوساط النازحين المقيمين على الأراضي اللبنانية. وثمة مؤشرات كثيرة إلى كون إقامة النازحين في لبنان لم تعد تحظى بالدعم الذي نعمت به من قبل الجهات الداعمة منذ العام 2012 حتى اليوم.

العصا والجزرة في إدارة ملف العودة

لم تعد التخفيضات والاقتطاعات مقتصرة على التقديمات النقدية أو العينية التي كان يحصل عليها النازحون في السنوات الماضية، أو على أعداد المستفيدين منها، بل تعدّتها مؤخرًا إلى اقتطاعات أخرى شملت حتى طواقم الهيئات والمنظمات المانحة العاملة على الأراضي اللبنانية. وهذا في مقابل الحوافز المالية التي أقرت للراغبين بالعودة طوعًا إلى بلادهم، وأبرزها ما وفره برنامج العودة الطوعية المنظمة، من دعم لوجستي للنقل، بالإضافة إلى منحه النقدية لمرة واحدة، والتي حددت بقيمة 100 دولار أميركي لكل فرد من أفراد العائلة العائدين، و400 دولار لكل عائلة عائدة يتم تسديدها لدى وصولها إلى سوريا.

يعطى هذا المبلغ حتى الآن وفقًا لمصادر المفوضية لكل شخص مسجل في المفوضية أو لا يزال مستفيدًا من خدماتها، إذا قرر طوعًا العودة إلى سوريا، على أن يكون ملفه مكتملًا لجهة خلوه من الشوائب القانونية، ولجهة التأكيد على لم الشمل العائلي في سوريا. وهذا بالإضافة إلى تأكيد المفوضية ومنظمة الهجرة الدولية على ترافق محفزات برنامج العودة الطوعية مع استثمارات فعالة في مناطق العودة، وذلك من خلال التنسيق الوثيق مع الشركاء الإنسانيين والإنمائيين لخلق ظروف داعمة لإعادة اندماج العائدين بطريقة آمنة وكريمة.

الحدود الشرعية نقطة الاختبار

لاقت السلطات اللبنانية هذه الخطوة للمفوضية بمعاملة ممتازة وفّرتها لكل مقيم بشكل مخالف على أراضيها، من خلال إجراءات حدودية قضت بتقديم تسهيلات إضافية لمن دخلوا إلى لبنان بصورة شرعية أو غير شرعية، وتجاوزوا مدة الإقامة المصرّح بها، بحيث يسمح لهم باجتياز المعابر الحدودية الرسمية البرية من دون دفع أي رسوم أو غرامات، ومن دون إصدار منع دخول بحقهم. على أن يقفل ملف كل شخص استخدم إجراءات تسهيل العبور هذه لدى المفوضية في لبنان، ليتسنى له الحصول على الخدمات والمساعدات في سوريا.

إلا أن هذه التسهيلات لا تشمل “زيارة الذهاب والاطلاع على الأوضاع” التي رفضت من السلطات اللبنانية، خصوصًا أن عددًا كبيرًا من اللاجئين قد قام بهذا النوع من الزيارات بشكل فردي سابقًا، واستغل الأمر للدخول والخروج من لبنان من دون أوراق ثبوتية بذرائع الاستطلاع، وهذا ما أبقى الباب مفتوحًا أمام عمليات الدخول خلسة أو عبر المعابر غير الشرعية بالنسبة للمترددين بالعودة حتى الآن.

وفقًا لمصدر حدودي معني، فإن التسهيلات الإدارية والقانونية المعمول بها على الحدود الشرعية، بموازاة التحفيزات المقدمة من الجهات المانحة، ساهمت حتى الآن برفع عدد العائدين بشكل فردي ومن خارج برنامج العودة المنظمة، بحيث تقدر أعداد العائدين عبر معبر المصنع الأكثر نشاطًا يوميًا، ما بين 250 إلى ألف فرد.

أرقام متفائلة وواقع مقيّد

طبعًا هذه الأرقام ليست بحجم تطلعات السلطات اللبنانية، إلا أنه وفقًا لمصدر معني “لا نزال في بداية الطريق”. والمحفزات المتوفرة عبر المنظمات بموازاة توقيف خدماتها الأساسية كالخدمات الطبية والتعليمية، من شأنها أن تسهل القرار بالنسبة للمترددين حول العودة، وخصوصًا في ظل الظروف الاقتصادية في سوريا.

وانطلاقًا من كل ما ذكر تتوقع مصادر مفوضية اللاجئين كما السلطات الحدودية اللبنانية، أن ترتفع أعداد العائدين حتى نهاية العام الجاري، إلى ما بين 400 و500 ألف. علمًا أن أبرز العوامل التي تحول حتى الآن دون تحقيق موجات النزوح الكبيرة مرتبطة بواقع الحال في سوريا أولًا، وبإصرار بعض النازحين على ألّا يعودوا سوى إلى مناطق هجرتهم الأولى، والتي يعاني بعضها من سوء الأحوال المعيشية كما الأمنية.

ومع ذلك، لمس سائقو شاحنات النقل حركة نزوح واضحة في الأيام الماضية وفقًا لما يؤكدونه، وكانت عودة هؤلاء طوعية أحيانًا، وفي بعض الأحيان تحت ضغط الأحداث الأمنية التي وقعت في السويداء، والتي جاءت ترجمتها في لبنان خشية من عمليات انتقامية بحق عائلات نزحت إلى لبنان منذ بداية الثورة.

تداخل السياسة بالديموغرافيا في معادلة العودة بعرسال

إلا أن الأرقام التي يجري التسويق لها بأنها متفائلة، لا تُترجم على الأرض بمعالم واضحة حتى الآن، سوى في بلدات قليلة شهدت موجات من الهجرة الواسعة. ففي البقاع مثلًا، حيث أكبر التجمعات للنازحين، سُجّلت أكبر الهجرات المعاكسة لهؤلاء في منطقة عرسال بمحافظة بعلبك تحديدًا. بحيث يقدر عدد السوريين الذين ما زالوا مقيمين في البلدة بنحو ستة آلاف فقط بعد أن تجاوز عددهم المئة ألف في الأعوام الماضية. والأسباب هنا سياسية بالدرجة الأولى، ليس فقط لأن نازحي عرسال يشكلون جزيرة سنية في بحر من البيئة الشيعية المؤيدة لـ”حزب الله” في منطقة بعلبك الهرمل، وإنما لأن معظم من التجأوا إلى عرسال منذ بداية الحرب التي وقعت في سوريا، هم أبناء القصير الذين هجّروا قسرًا وجرى الاستيلاء على بيوتهم وأملاكهم من قبل “حزب الله”، إثر تورطه بمساندة نظام بشار الأسد في وجه شعبه، فكانت عودتهم إليها وانتزاعها منه بقرار سياسي قبل أي شيء آخر.

ملامح خلو عرسال الكبير من ضيوفها السوريين تتبدى خصوصًا في ركام المخلفات التي تسبح فيها عرسال حاليًا وتشكل معضلة بالنسبة للسلطات المحلية للتخلص منها.

غياب مؤشرات العودة الفعلية

على رغم هذه العودة الواسعة للنازحين في بلدة عرسال، تظهر أحدث خارطة أعدتها الـ UNHCR حول مناطق توزع المسجلين لديها حتى أواخر شهر حزيران من العام الجاري، أي قبل انطلاق برنامج العودة الطوعية في الأول من تموز، عن تواجد نحو 100 ألف نازح في منطقة بعلبك الهرمل، 93 ألفًا منهم في منطقة بعلبك وحدها. وهؤلاء هم من تبقى من أعداد المسجلين، قبل أن تطلب السلطات اللبنانية من المفوضية وقف تسجيل النازحين في العام 2015. علمًا أن مجمل عدد النازحين المسجيلن في المفوضية وفقًا لهذه الخريطة يبلغ 716 ألف و312 نازحًا، مقابل 780 الفًا كانوا مسجلين حتى شهر آذار من العام 2024، وهذا لا يعكس طبعًا حجم داتا النازحين الذين استفادوا لسنوات من تقديمات المفوضية والتي لا تزال موضوع جدل بين السلطات اللبنانية والمفوضية.

وتحل بعلبك وفقًا لهذه لخريطة في المرتبة الثانية بالنسبة لأعداد النازحين بعد محافظة البقاع حيث يتبين وجود 170 ألف نازح كانوا لا يزالون مسجلين في المفوضية قبل نحو شهرين تقريبًا، من بينهم 114 ألفًا في منطقة قضاء زحلة وحدها. لتحل من بعدهما عكار بنحو 97 ألف نازح مسجلين في المفوضية. بينما تحضن الميناء نحو خمسين ألف نازح، وطرابلس نحو 33 ألفًا، وبعبدا نحو 43 الفًا، الشوف 46 ألفًا وصيدا 32 ألفًا، ويتوزع الباقون على مختلف المدن، مع تسجيل أقل الأعداد في منطقة بشري حيث لا يتجاوز عدد النازحين المسجلين لدى المفوضية الألف.

ومع أن هذه الأرقام لا تشمل كل المستفيدين من برامج المساعدات التي كانت توفرها المفوضية حتى لغير المسجلين لديها، والذين يعرفون بالـ RECORDINGS فهي تعكس التضخم السكاني الأكبر للنازحين في البقاع. بينما لا مؤشرات واضحة حول اتخاذ هؤلاء القرار بالعودة إلى بلادهم حتى الآن.

البقاع بين ثبات المخيمات والنزوح الجديد

في جولة ميدانية سريعة على قرى مكتظة بالنازحين في زحلة والبقاع الغربي، يتفاوت المشهد بين قب الياس والمرج من جهة، وبر الياس من جهة ثانية.

يؤكد مصدر بلدي في قب الياس أن حجم المخيمات في البلدة لا يزال على حاله منذ انهيار نظام بشار الأسد، من دون تسجيل سوى بعض حالات المغادرة الفردية، والتي يمكن توثيقها من خلال بقايا آثار خيم أخليت من ساكنيها ومُنع إشغالها من أي جهة أخرى. وهذا في مقابل الحديث عن نسبة مغادرة كبيرة من المنازل المستأجرة، والتي تشكل المعضلة الأكبر بالنسبة للبلديات، خصوصًا أنها في الغالب لا يمكنها إحصاء أعدادهم، ليس فقط بسبب حشر عدة عائلات في وحدة سكنية واحدة، وإنما لكون معظم النازحين خلال الفترة الماضية قد عمدوا إلى تبديل أماكن سكنهم تحت وطأة تبدل إيجاراتها، وفي معظم الأحيان لم يصرح المؤجرون عن هذه العمليات في البلدية، على رغم كل المحاولات لتنظيم هذه العملية بمتابعة من السلطات المركزية وتوجيهاتها.

الصورة تبدو مشابهة في بلدة المرج في البقاع الغربي أيضا حيث تتحدث مصادر بلدية عن مغادرة أعداد من النازحين، وعن عودة بعضهم مجددًا بسبب الأوضاع الاقتصادية في سوريا. بالإضافة إلى استضافة البلدة أيضًا أعدادًا من النازحين الجدد من العلويين.

علمًا أن هناك نازحين جددًا من الطائفة الشيعية وصلوا إلى لبنان إثر سقوط نظام الأسد، وجزء كبير من هؤلاء غير مسجل لدى المفوضية، وتشكل البيئة الشيعية في لبنان ولا سيما في بعلبك حاضنة أساسية لهم.

اقتصاد موازٍ ينهار مع عودة النازحين في بر الياس

في المقابل يتحدث مختار بر الياس عن التداعيات التي خلفها تراجع أعداد النازحين في البلدة على الحركة التجارية في المدينة بشكل عام.

وبر الياس هي ثاني أكبر المدن البقاعية، وشكلت بيئتها السنية حاضنة أساسية للنازحين السوريين منذ بداية الأزمة السورية، واستقطبت هؤلاء ما قبل سقوط نظام بشار الأسد بعشرات الآلاف.

انتعشت البلدة اقتصاديًا بشكل كبير نتيجة لهذا التضخم، ونشط مع وجودهم عمل محلات السمانة والخضار وبيع اللحوم، فنشأ حوله اقتصاد موازٍ قائم على تأمين الاحتياجات الحياتية ومن ضمنها المياه والخبز وغيرها. هذا بالإضافة إلى سوق الأحذية والملبوسات الذي قام على مدخل البلدة وشكل نقطة جذب مركزية للنازحين من مختلف المناطق البقاعية.

تبدلت الحال بشكل كبير في البلدة وفقا لما يقوله المختار سليمان طراف الذي يشير إلى تداعيات العودة حتى على نشاط مخاتير البلدة والذين كانوا ينجزون يوميًا ما بين أربعين وخمسين شهادة للولادة، بالإضافة إلى وثائق الزواج والوفاة. أما اليوم فيقول “إن معظم النشاط المرتبط بالسوريين يقوم على تأمين وثائق التصريح عن الممتلكات و”العفش المنزلي” والمقتنيات التي ينقلها العائدون معهم إلى بلادهم، بالإضافة إلى تردد البعض عليهم مجددًا، طلبًا لوثائق ولادة مبنية على تقارير من المستشفيات، اهترأت بجيوبهم قبل أن يكتشفوا أنها لا تسمح لهم وحدها بتسجيل أولادهم في سوريا بعد العودة إليها.

خارطة طريق تنظيمية للعمالة السورية؟

لا ينفي البعض أن تراجع أعداد السوريين سينعكس على القطاعات التي تعتمد على يدهم العاملة بقوة. ولكن ذلك لا بد أن يشكل برأيهم انطلاقة صحيحة لخارطة طريق تؤمن ضبط وتنظيم ملف السوريين الموجودين على الأراضي اللبنانية أو الراغبين بالتردد إلى لبنان، بما يضمن سد حاجة السوق من هذه العمالة إنما من ضمن الأطر القانونية التي تحفظ الحقوق والواجبات.

وفي هذا الإطار، أعلنت المديرية العامة للأمن العام عبر موقعها الإلكتروني عن سلسلة خطوات سيتم المباشرة بها بالتزامن مع رحلات العودة الطوعية المنظمة. وتتضمن هذه الخطوات الطلب من السوريين المخالفين لنظام الدخول والإقامة، التوجه مباشرة إلى الدوائر والمراكز الحدودية لمنحهم التسهيلات اللازمة لتسوية أوضاعهم ومغادرة الأراضي اللبنانية تحت طائلة اتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة بحق غير المغادرين. الحرص على ألّا يشغل المواطنون اللبنانيون أو يأوون أو يؤمنوم سكنًا لأي سوري مقيم بطريقة غير شرعية في لبنان، تحت طائلة تنظيم محاضر ضبط إدارية وعدلية بحق المخالفين. عدم السماح للسوريين المسجلين لدى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ممارسة أي عمل مأجور من خارج قطاعات العمل المحددة لهم.

هذا بموازاة، وقف منح أو تجديد الإقامات بموجب عقد إيجار سكن، أو سندًا لتعهد مسؤولية – شخصي، إلى أن ينتهي تعديل شروط تجديد الإقامات بموجب كفالة مالية. إلى جانب الحث على إقفال كافة المؤسسات والمحال المخالفة التي يديرها أو يستثمرها سوريون، واتخاذ الإجراءات المناسبة بحق كل من يستخدم عمالًا أجانب خلافًا لنظام الإقامة وقانون العمل.

فإلى أي حد يمكن أن يتحمل المجتمع مسؤوليته بهذا الملف أسوة بالسلطات الرسمية؟

اترك تعليق