“خطة ثلاثية البُعد” لمحاصرة “حزب الله” ونفوذه

بقيتْ التحريات عن «الخطوة التالية» للبنان بعدما دخلتْ عواصم عربية وازنة على خط محاولة خفض التصعيد واحتواء التوتر العالي، وعلى رأسها مصر، في ظل تحوُّل المفاوضات التي تضغط في اتجاهها واشنطن على أن تكون مباشرة بين بيروت وتل أبيب بمثابة «الممر الآمن» الممكن تفادياً لمواجهة جديدة، هذا إذا توافرت ظروف نجاح مثل هذا التفاوض الشاق.

وفي الإطار، برزت قراءةٌ لأوساط سياسية اعتبرت أن الحزب لا يمانع في سياق سياسة «امتصاص الصدمات» و«الانحناء أمام العواصف» حصول تفاوض غير مباشر ضمن إطار لجنة «الميكانيزم» (تتولى عبر جنرالات من أميركا وفرنسا ولبنان وإسرائيل واليونيفيل الإشراف على اتفاق وقف النار) مع تطعيمها بمدنيين، وفق ما جرى الحديثُ عن تَوافُق رسمي لبناني حوله، بما يتيح عملياً شراء الوقت، خصوصاً أن بيروت تشترط أن يكون المدخل إليه وقف الاعتداءات الإسرائيلية.
وتَعتبر أوساط سياسية أن الحزب يقيم على اقتناعٍ بأن موضوعَ السلاح وما دام على موقفه الرافض لتسليمه شمال الليطاني خصوصاً، سيجعل في النهاية أي تَفاوُضٍ، ولا سيما في ضوء استعجال الرئيس دونالد ترامب أن يقلع مسار غزة وأخواته، محكوماً بالحاجة إلى مرونةٍ ما من الولايات المتحدة، ولا سيما أن مناخاتٍ بدأت تسود بأن ثمة مَن يُبدي في واشنطن وتل أبيب خشية من انزلاق لبنان إلى حرب أهلية تحت عنوان نزع السلاح بالقوة، وهو ما من شأنه أن يرتدّ سلباً على إسرائيل في ضوء ما سيعنيه من انفلات الوضع خصوصاً على الجبهة الجنوبية. رغم الانطباع بأن مثل هذا السيناريو يجعلها تصيب أكثر من عصفور: توريط الحزب في نزاع داخلي يستنزفه ولابد أن ينتهي بطيّ صفحة سلاحه بتسوية سياسية لبنانية، وتبرير أي نيات توسعية داخل الأراضي اللبنانية.

وترتكز هذه «المحاكاة» على أجواء، لا يمكن أن يُعتدّ بمدى قابليتها للتسويق إسرائيلياً ولا الاعتماد أميركياً، بأن ثمة استكشافاً لإمكان حصول تركيز في المرحلة الراهنة على ترسانة «حزب الله» جنوب الليطاني بحيث يَفتح إنجازُ الجيش اللبناني مَهمته في هذه الرقعة بحلول نهاية ديسمبر المقبل، البابَ أمام «اتفاقٍ حدودي» وإن مع ترتيباتٍ تضمن لإسرائيل تحقيق سرديةِ انكفاءَ الخطر المباشر عن شمالها، على أن يبقى السلاح في شمال الليطاني رَهْنَ ديناميةِ قرار حكومةِ الرئيس نواف سلام بسحْبه، على أن يكون ذلك من ضمن مسرح عمليات ثلاثي البُعد يشتمل إلى الجانب التقني المتصل بالسلاح على:

– التضييق المالي على «حزب الله» وخَنْقِ مَصادر تمويله وقنوات إيصالها إليه، بحيث يؤدي تجفيفُ منابع «الكاش ايكونومي» إلى الحدّ من تأثيره داخل بيئته، كحلقة أمان اجتماعية، ومن قدرته على التسلح الـ «ذاتي التمويل».
وفي السياق، يمكن وضع الإصرار الأميركي على مواكبة مسار الإطباق المالي على حزب الله كما إيران، وهو ما تعبّر عنه الزيارة المرتقبة لوكيل وزارة الخزانة الأميركية لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية، جون ك. هيرلي، في إطار جولة إقليمية يقوم بها وستركّز على «التعاون مع عدد من الشركاء الرئيسيين لتنفيذ حملة الضغط الأقصى التي أطلقها الرئيس دونالد ترامب ضد إيران، وتعزيز إجراءات الحماية لمنع الجماعات الإرهابية من الوصول إلى النظام المالي العالمي».

– التضييق السياسي، عبر الحدّ من «تمكين نفوذ» حزب الله في السلطة والذي يشكل المدخل إليه إحكامه السيطرة على كتلة نواب الشيعة، ما يمنحه «ورقة الميثاقية» في النظام، وتمتعه مع حلفاء له بالثلث زائد واحد في البرلمان الذي يُعطيه مفتاح تعطيل استحقاقات دستورية رئيسية، أبرزها الانتخابات الرئاسية، وربما محاولة إخراج رئاسة البرلمان من «دائرة» الثنائي وفق ما يعبّر عنه إمساك الرئيس نبيه بري بمطرقة المجلس منذ العام 1992، مع ما يتيحه له ذلك من أدوات تحكُّم باللعبة البرلمانية برمّتها.

وفي هذا الإطار، يمكن فهْم الأبعاد العميقة للانتخابات النيابية المقبلة، وسرّ اعتماد الثنائي الشيعي ما يشبه «الجهاد الأكبر» السياسي لمنْع أن يقترع غير المقيمين في لبنان للنواب الـ 128 كل في دائرته وإصراره على تفعيل المادة في قانون الانتخاب المتعلقة باستحداث 6 مقاعد للمغتربين تمثّل 6 قارات، وهو ما بات محور «مكاسرة» سياسية طاحنة خارج قبة البرلمان بفعل رفض خصوم حزب الله اعتماد صيغة تخصيص المنتشرين بستة نواب والتي يريدها الحزب لتحييد كتلة الانتشار التي هي في غالبيتها «غير صديقة» له.

– التضييق الجغرافي براً، عبر قَفْلِ المَنافذ التي مازالت تسمح له بتهريب السلاح عبر سوريا من إيران وفق مسارب جديدة جرى «تكييفها» مع التحول الجيو – سياسي في دمشق التي كانت تشكّل «حلقة ذهبية» في قوس النفوذ الإيراني «المترابط» حتى لبنان، وذلك من خلال استخدام الإغراءات المالية وغيرها لمجموعاتِ تهريبٍ على الحدود بما يُبقي شريان المعابر غير الشرعية قائماً حتى إشعار آخَر.

ومن هنا يمكن تفسير التقارير التي تتحدث عن رغبة أميركية في صيغة «متعددة الجنسية»، أي ذات طابع دولي، لضمان ضبط الحدود مع سوريا، علماً أن مدماك مثل هذه الصيغة موجود عبر أبراج المراقبة البريطانية (تخضع لسلطة الجيش اللبناني وإشرافه) التي أقيمت بتمويل من لندن قبل أكثر من عقد وتمتد على مدى الحدود اللبنانية السورية من منطقة العريضة إلى ما بعد قرية راشيا في الجنوب الشرقي، ويقدر عددها بـ 39 برجاً، بينها أبراج محمولة ومتنقلة، يوفّر كل منها رؤية بنصف قطر 360 درجة لمسافة 10 كيلومترات.

وإذا كان هذا «المثلث» يرمي في جوهره إلى إفقاد سلاح حزب الله وظيفته من جهة فـ «تنهي صلاحيته مع الوقت داخل المستودعات» وفي الوقت نفسه «حفر الأرض من تحت أقدام» نفوذه السياسي – المالي – المجتمعي، فإن دون هذا المَشهد الـ «ماكرو»، بحسب مصادر واسعة الاطلاع نقطتان:

– تَمَسُّكُ إسرائيل المعلَن بنزع سلاح «حزب الله» في كلّيته، وفق مواقف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وكبار مسؤوليه.

– عدم ممانعة تل أبيب الضغط على «لبنان ككل» في سبيل تحقيق هذه الغاية، وسط رَبْط مُحْكَم تقوم به بين أي انسحابٍ من النقاط التي تحتلها جنوباً وربما من المنطقة العازلة التي تمضي في إرسائها، وقد توسّعها في أي ضربات أكثر شمولية، وبين تفكيك الترسانة العسكرية للحزب جنوب الليطاني وشماله، خصوصاً ما لم تكن التطورات في المنطقة سمحت بتسديد ضربة قاصمة لإيران التي تعتبر إسرائيل أنها ما دامت قائمة بنظامها الحالي فإن مشروعها ومهما اعتمد استراتيجية «التنويم» أو «الخمول» فإنه سيخلع القناع مجدداً.

اترك تعليق