زيارة وليّ العهد السعوديّ محمد بن سلمان إلى واشنطن لم تكن مجرد حدث بروتوكوليّ، بل محطة كاشفة عن تحوّل عميق في هندسة الشرق الأوسط وموقع المملكة ضمن ميزان القوى الإقليميّ. فالتوقيت، والمراسم غير المسبوقة، والرسائل المعلنة والمضمرة، كلّها شكّلت جزءاً من سرديّة جديدة تُعيد رسم التحالفات في منطقة تتصادم فيها دوليّاً المصالح الأميركيّة والصينيّة، وإقليميّاً المصالح الإسرائيليّة والإيرانيّة، ويعاد فيها تشكيل موازين النفوذ بطريقة توحي بالانتقال إلى حقبة مختلفة.
من اللحظة الأولى، بدا أن واشنطن أرادت التأكيد على أنّ مفاتيح الإقليم ما زالت تمرّ عبر الرياض. فالحفاوة الاستثنائيّة، من الاستقبال الرسميّ الأعلى في عهد ترامب الثاني إلى العروض العسكريّة الجوّية، لم تكن مجرّد تكريم لزعيم صاعد، بل رسالة سياسيّة واضحة في أنّ السعودية باتت اليوم ركيزة أساسيّة في أي معادلة استقرار أو نفوذ مستقبليّ في الشرق الأوسط.
في قلب البيت الأبيض، لم تكن كلمات ترامب مجاملات فحسب. فخلف الإطراء الذي أغدقه على الأمير الشاب، تتبلور الرسالة الأعمق بوضوح: واشنطن تراهن على محمد بن سلمان بوصفه الشريك القادر على ملاقاة استراتيجيّتها الجديدة، القائمة على تثبيت الاستقرار وكبح اندفاعة الخصوم، وفي مقدّمهم الصين وإيران. هكذا بدا الثناء الرئاسيّ غلافاً دبلوماسيّاً لرهان أميركيّ كبير على دور سعوديّ صاعد في توازنات المرحلة المقبلة.
أمّا الامتداد الزمنيّ للزيارة – ست ساعات متواصلة من اللقاءات والغداء والعشاء وحفل الاستقبال – فلم يكن تفصيلاً شكليّاً، بل انعكاساً لإدراك واشنطن لدور السعودية في الملفات الكبرى: تحوّلات سوق الطاقة، أمن الممرّات البحريّة، مستقبل اليمن والعراق وسوريا ولبنان، ومسار التطبيع المحتمل. الإعلام الأميركيّ قرأ هذا بوضوح، معتبراً السجادة الحمراء اعترافاً بقوّة سعوديّة صاعدة وبأهميّة الشراكة معها.
ولم تقتصر أهميّة الزيارة على الشكل البروتوكولي فحسب، بل جسّدت مؤشّرات بارزة تعكس التحوّل العميق في موقع المملكة داخل الحسابات الأميركيّة. هكذا جاء من جهّة إعلان ترامب قبيل وصول وليّ العهد الموافقة على بيع مقاتلات “أف -35″، متجاهلاً الضغوط الإسرائيليّة واللوبيات الرافضة، وهو مؤشر على استعداد أميركيّ لإعادة النظر في معادلة “التفوّق النوعيّ” التقليديّة لصالح شريك إقليميّ بات ركناً أساسياًّ في استراتيجيّته. قابله من جهّة أخرى إعلان بن سلمان رفع الاستثمارات السعوديّة في الولايات المتّحدة إلى تريليون دولار، وهو رقم يتجاوز البعد الماليّ ليصبح رسالة جيو – اقتصاديّة، تحوّل السعودية إلى مستثمر مؤثّر في البنية الاستراتيجيّة للاقتصاد الأميركيّ، ممّا يجعل واشنطن أكثر اعتماداً على الرياض.
بالتوازي، حمل وليّ العهد أوراق قوّة إيجابيّة تقبّلتها وتفهّمتها واشنطن، وهي متّصلة بأربعة مسارات رئيسيّة: تمسّك السعوديون بمفاتيح صفقات كبرى تبادليّة المنافع، من التكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعيّ إلى برنامج “أف -35” والبرنامج النووي السلميّ، وبما يمكّن المملكة من تسريع تنفيذ رؤية 2030. سبقها إظهار القدرة السعوديّة على قيادة موقف عربيّ – إسلاميّ واسع، بما في ذلك حشد دعم دوليّ للحقّ الفلسطينيّ ورفع مستوى الضغط على واشنطن لوقف حرب غزّة واستئناف المسار التفاوضيّ، وترؤس مؤتمر نيويورك لحل الدولتين. وازن ذلك إعادة تشكيل البيئة الأمنيّة الإقليميّة عبر اتّفاق دفاعيّ مهم مع باكستان النووية، وتعزيز التعاون مع تركيا، والاتفاق مع إيران برعاية صينيّة، وهو ما أسقط ورقة الابتزاز الأمنيّ التقليديّة للغرب بعد هجوم “أرامكو”. وأخيراً، التحوّل في ميزان الشراكات الدوليّة، مع تصاعد التبادل التجاريّ مع الصين وتأكيد الرياض على وجود بدائل استراتيجيّة أميركيّة، في توازن جديد يضيف عنصر ضغط تفاوضيّ مرن في العلاقة مع واشنطن.
في المحصّلة، تدرك المملكة، إلى جانب العديد من الفاعلين الإقليميين، أنّ القوّة الأميركيّة تمسك بخيوط اللعبة الشرق أوسطيّة، وتحرز نقاطًا مهمة هنا وهناك، لكنّها لا تزال عاجزة عن بلوغ الهدف الكامل، بفعل التحدّيات الكبرى المتمثّلة في إيران وإسرائيل، ما يجعل أي إنجاز أميركيّ محكوماً بالقيود الإقليميّة المعقّدة.
يمكن وصف الوضع بأنّه نصف إنجاز، وهو يظهر جليّاً في غزّة واليمن والعراق ولبنان، وربّما يمتد أثره إلى سوريا، في انتظار اللحظة التي يمكن فيها تحويل هذه المكاسب إلى استراتيجيّة مكتملة، قادرة على إعادة تشكيل ملامح المنطقة وتحريك رقعتها نحو توازن جديد.
في هذا الإطار، تدخل السعودية معترك الصياغات بقدرات اقتصاديّة وسياسيّة غير مسبوقة، لكنّها تدرك أنّ أمنها الإقليميّ وطموحها في المنطقة لا يزالان مرتبطين بقرار أميركيّ متقلّب.
وواشنطن، من جهّتها، تواجه تحدّياً في الحفاظ على نفوذها في منطقة لم تعد تقبل دور الحامي التقليديّ بلا مقابل واضح. فهل ستتمكّن واشنطن والرياض من بناء نظام شراكة جديد، يرتكز على تكامل اقتصاديّ وسياسيّ وأمنيّ، يترجمه توازن ملموس، ولو بالحدّ الأدنى، على قضايا المنطقة؟
الإجابة على هذا السؤال ستحدّد ليس فقط مستقبل العلاقات الثنائيّة، بل أيضاً ملامح الاستقرار الإقليميّ في إطار زمنيّ لن يتعدّى نهاية العام المقبل، إذ غالباً ما تتجمّد الملفات الإقليميّة والدوليّة عند حلول موعد منتصف الولاية الرئاسيّة الأميركيّة، حيث ينحصر الاهتمام بالداخل الأميركيّ ويصبح ضبط الإيقاع السياسيّ الخارجيّ ثانويّاً.
رأي حر من السجّادة الحمراء إلى التحوّلات الاستراتيجيّة: انطباعات وأسئلة – أنطوان العويط













