ما إن وقع باني إمبراطورية الإتجار بالمخدرات في البقاع نوح زعيتر في قبضة الجيش اللبناني الأسبوع الماضي، حتى امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بسيلٍ من التحليلات والتوقعات والشكوك، حول خلفيات توقيفه، السياسية، الأمنية المحلية منها والإقليمية، في هذا الوقت تحديدًا. فالرجل الذي عدّ منذ سنوات طويلة أبرز المطلوبين للدولة اللبنانية بجرم الإتجار بالمخدرات وإطلاق النار، استسلم من دون أي “ضربة كف”. وهذا ما عزز القناعات بأن توقيفه، في توقيته وسهولة إنجاز المهمة، جاء ضمن تسوية مُحكمة قد تتيح له لاحقًا الاستفادة من عفو عام أو من تخفيض في العقوبات، بما يجعل خروجه من السجن مسألة وقت.
انهيار الغطاء السياسي وتبدّل المعادلات الأمنية
عكس هدوء زعيتر لحظة توقيفه، خضوعه للقرار السياسي الذي أمّن التغطية الكاملة للأجهزة الأمنية والعسكرية في ملاحقة شبكات المخدرات. واستسلامه أمام مستوى الحزم غير المسبوق الذي أبداه الجيش اللبناني في هذه المنطقة، لناحية ملاحقة كبار المطلوبين. وهو ما تتابعت ترجمته قبل يوم واحد فقط في عملية “الشراونة” التي نُفذ خلالها حكم الإعدام المباشر باثنين من كبار تجار المخدرات، في عملية عسكرية نتج عنها سقوط شهيدين للجيش وعدد من الجرحى أيضًا.
وانطلاقًا من هنا تعززت القناعات أيضًا، بأن زعيتر سلّم نفسه لكونه فقد الغطاء السياسي الذي كان يحميه، بالتوازي مع تراجع نفوذ “حزب الله” تحت وطأة الحصار الخارجي، رغم إصرار وكيله القانوني على نفي أي علاقة تنظيمية تربطه بـ “الحزب”.
لكن معطيات إضافية جعلت من توقيت توقيفه أكثر قابلية للفهم. فسوريا التي كان زعيتر يحتمي بها كلما ضاق الخناق الأمني عليه، مثله مثل معظم طفار بعلبك، والمطلوبين فيها، لم تعد ملاذًا آمنًا. بل شدّدت السلطات السورية إجراءاتها الرادعة، وأوصدت أبوابها بوجه جيوب فلول نظام بشار الأسد الذين أرسوا شبكة حدودية لتجارة المخدرات بين البلدين. وهذا ما وضع زعيتر كما الكثيرين من المطلوبين الخطيرين وفقًا لمصادر سياسية، في مرمى العدالة اللبنانية، أيًا كان النفوذ العشائري والسياسي الذي احتموا به سابقًا.
توقيتٌ مدروس
ومع ذلك، لا يمكن إغفال أن زعيتر وفريقه القانوني أحسنا اختيار “المومنتم”. فاللحظة السياسية والأمنية الراهنة تبدو مناسبة. وربما لم تكن مصادفة أن تتزامن مع فتح ملف الموقوفين السوريين في السجون اللبنانية، المحكومون منهم وغير المحكومين، وورقة التفاهم القضائية التي يسعى كل من لبنان وسوريا للتوصل إليها، والتي يرتقب أن تخلّف اهتزازات حادة في واقع السجون اللبنانية، وبالتالي ارتدادات على سجنائها اللبنانيين أيضًا.
عمليًا لا صلة مباشرة بين تسليم فضل شاكر نفسه قبل أسابيع وخضوعه للمحاكمة، وعملية توقيف نوح زعيتر بالسهولة التي جرت. إلا أن هذا التسارع في “تنظيف السجلات العدلية” لرموز من المطلوبين سابقًا، قد يشكل من وجهة نظر قانونيين يعملون على ملف اكتظاظ السجون اللبنانية، مقدمة لخلق توازن يساعد على ولادة قانون العفو العام، الذي عجز مجلس النواب واللجان البرلمانية طوال سنوات عن التوصل إلى صيغة توافقية بشأنه. ويؤكد هؤلاء أن الربط بين هذه التوقيفات وبين مشروع العفو العام لا يأتي من فراغ. فهو جزء من سياقٍ تراكمي بدأ منذ طرح فكرة اتفاقية قضائية بين لبنان وسوريا، تقضي بإعادة المحكومين أو الموقوفين السوريين إلى بلادهم.
ضغطٌ يحاول الاستفادة من الورقة السورية
بحسب المعلومات، فإن إصرار السلطات السورية على المطالبة بكل مواطنيها المحتجزين، سواء في السجون اللبنانية أو في النظارات، يمكن أن يشكل ورقة ضغط في تغيير المسارات القضائية داخل السجون اللبنانية على مختلف المستويات، خصوصًا أن بعض المتورطين السوريين في ملفات أمنية خطيرة، ومن بينها الاعتداء على الجيش، والتخطيط لعمليات إرهابية، أوقفوا من ضمن شبكات مشتركة بين لبنانيين وسوريين. وهذا ما يجعل الأمر معقدًا وفقًا لمصدر قانوني، لأن إعادة الموقوفين السوريين إلى سلطات بلادهم قد تتيح لهم الاستفادة من إعفاءات لن تشمل الموقوفين اللبنانيين في الملفات نفسها، وهذه مفارقة قد لا تمر من دون ارتدادات سياسية وقانونية.
انطلاقًا من هنا، يلاحظ المراقبون تنامي التوجه لدى عائلات السجناء اللبنانيين لاستغلال الملف السوري من أجل الضغط على الحكومة، أو على مجلس النواب، لإصدار نوع من الإعفاءات عن المحكومين، ولا سيما الإسلاميين منهم. ولا يستبعد البعض أن تبدأ التحركات مباشرة بعد التوصل إلى تفاهم على الاتفاق القضائي بين لبنان وسوريا.
توقيف زعيتر في قلب معادلة انتزاع العفو العام!
رغم أن النشاط اللبناني الموازي لتطور ملف الموقوفين السوريين، يحاول أن ينأى عن قضية توقيف زعيتر وغيره من تجار المخدرات، يبقى الترقب سيد الموقف في ما يمكن أن ينتج عن وجود زعيتر خلف القضبان، من ضغط شعبي وعشائري لإقرار هذا القانون. فزعيتر كان من الداعمين لتعديلات في العقوبات تطول المحكومين بالإعدام أو بالمؤبد وتدفع باتجاه العفو العام. وفي هذا الإطار يمكن وضع الحراك الإعلامي لوكيله القانوني، خصوصًا أن الأخير لم ينف في تصريحاته الإعلامية التعويل على صدور قانون للعفو العام يشمل موكله، حتى لو كان من غير المؤكد أن زعيتر يمكن أن يكون من المستفيدين من مثل هذا القانون، خلافًا لإمكانية استفادته من أي تعديل آخر على قوانين العقوبات، ومن بينها عقوبة الإعدام أو المؤبد أو حتى تخفيض السنة السجنية.
في المقابل، بدأ يظهر غطاء سياسي متدرّج للمطالبة بالعفو العام، عبّر عنه مؤخرًا الحزب “التقدمي الاشتراكي” إثر رسالة تلقاها رئيسه وليد جنبلاط من تجمع سجناء لبنان تدعوه “انطلاقًا من انحيازه الدائم إلى المظلوم ونصرته للقضايا العادلة”، إلى دعم الإجراءات التي يطالبون بها، ومن ضمنها، تحديد سنوات حكمَي المؤبد والإعدام، تقليص مدّة السنة السجنية لستة أشهر لمرة واحدة، وتخلية سبيل كل موقوف مضى على توقيفه 10 سنوات بلا محاكمة. وهذا بالإضافة إلى الموقف المباشر للنائب جميل السيد من إصدار مثل هذا العفو في تغريدة له عبر وسائل التواصل. وهذه كلها ، تشكل إشارات إلى أن “طبخة ما” تُعدّ في الكواليس، لكنها لن تكتمل إلا عبر القنوات التشريعية. فهل كانت المقدمة في البندين الأول والثاني اللذين أدرجا على جدول أعمال مجلس الوزراء في الأسبوع الماضي؟
لمصلحة من نبش اقتراحات قديمة؟
في البند الأول الذي طرح على طاولة مجلس الوزراء بتاريخ 20 تشرين الثاني الجاري ما يعزز الفرضيات المذكورة، حتى لو نفاها وزير الإعلام بول مرقص في تصريحه بعد الجلسة. فقد جرى “نبش” اقتراح قانون من أرشيف المجلس النيابي، ليدرج كبند أول على جدول أعمال الحكومة، تحت عنوان “تعديل بعض مواد قانون العقوبات وقانون تنفيذ العقوبات لإيجاد حل لإشكالية إطلاق سراح المحكومين بالمؤبد”.
يقر البند إذًا أن هناك محكومين بالمؤبد، وهناك إشكالية بإطلاق سراحهم. وإذا كان الاقتراح يجد تبريراته في ظروف ناتجة عن بعض الأحكام أو حتى ظروف بعض السجناء الذين لم يستفيدوا من تعديلات سابقة في قانون العقوبات، فهو بالتأكيد لا يعبر عن حالة منطقية من ناحية عرضه كـ “حل لإشكالية إطلاق سراح المحكومين بالمؤبد” وهذا ما أيده أيضًا رئيس لجنة حقوق الإنسان النيابية ميشال موسى في اتصال مع “نداء الوطن”.
بحسب رأي هيئة التشريع والاستشارات الذي أرفق بقرار الحكومة الصادر حول هذا البند، فإن الاقتراح يعود إلى سنة 2016. أي أنه مقدم منذ تسع سنوات، وقد وقع عليه حينها النواب السابقون غسان مخيبر، عاطف مجدلاني، نوار الساحلي، إيلي كيروز، والنائب المتوفي إيلي عون، بالإضافة إلى النائبين اللذين أعيد انتخابهما منذ تلك المرحلة هاني قبيسي وميشال موسى.
إذًا، البارز في هذا البند ملاحظة الهيئة أن الاقتراح مقدّم من أشخاص لم يعودوا بمعظمهم نوابًا، وبعضهم فارق الحياة. ومع أن مجلس الوزراء، لا يتدخل في الاقتراحات إلا بصفة مطّلع، وفقًا لما شدد عليه مرقص إثر الجلسة، إلا أن مجرد عرضه كبند أول على طاولته بعد كل هذا الزمن، يطرح تساؤلات جدية حول إمكان استخدامه بهدف إفادة فئات محددة من المحكومين، وهي شبهة مشروعة في بلد يجري فيه التلاعب بالمسارات القانونية خدمة لمصالح خاصة.
موسى للنأي بأي اقتراح عن السجالات
بالنسبة للنائب ميشال موسى، أحد مقدمي هذا الاقتراح، يحيط طرحه تحت عنوان البند الأول لغط كبير. رافضًا التعليق على ما لم يطلع عليه. ولكنه جزم بأن عقوبة المؤبد لا يمكن الغاؤها، لا بل على العكس عند الغاء عقوبة الإعدام يطبق حكم المؤبد.
وشدد موسى في المقابل، على أن المبرر الأساسي لأي اقتراح قانون يتعلق بتعديل العقوبات أو طرح العفو العام، هو التطلع لحلول لمشكلة الاكتظاظ بالسجون. نافيًا أن يكون للاقتراحات التي قدمها النواب وتتم مناقشتها في جلسة مجلس الوزراء، أي ارتباط بما يتم تداوله حاليًا سواء على صعيد ترحيل السجناء السوريين، أو لناحية تسليم بعض المطلوبين ومن بينهم نوح زعيتر أنفسهم، خصوصًا أن الاقتراح موضوع قيد التداول منذ أكثر من ثلاث سنوات، وتأخيره مرتبط فقط بالمسار الذي تسلكه هذه الاقتراحات.
قرر مجلس الوزراء، إرجاء البت بهذا الموضوع، حتى لو جاء الاقتراح الوارد بمتنه مبررًا أيضا بالحديث عن “اكتظاظ لاإنساني في السجون، وبنى تحتية مهترئة وخدمات طبية سيئة وظروف معيشية صعبة”. فالرأي الذي حصل عليه من هيئة التشريع والاستشارات، لم يرَ في المبررات المقدمة ما يتيح إقراره، وأشار بوضوح إلى “أن معالجة الاكتظاظ ورداءة أوضاع السجون عبر تخفيض العقوبات أمر غير جائز، لأنه قد يُلغي الرادع الذي يفترض أن تشكّله العقوبات”. علمًا، أنه قياسًا إلى أعداد السجناء الذي يفوق حتى الآن الثمانية آلاف، فإن الاقتراح في حال أقر لن يشمل أكثر من 150 سجينًا، وهذا ما ينفي أن يكون طرحه جزءًا من خطة إصلاح شاملة للسجون. وبالتالي وفقًا لرأي قانوني، حتى لو لم يكن طرحه “فضيحة”، فهو بالتأكيد مؤشر خطير إلى احتمال وجود مستفيدين محدّدين. فماذا عن البند الثاني على جدول أعماله؟
نحو إلغاء عقوبة الإعدام
اقتصر اقتراح القانون الوارد ضمن البند الثاني في المقابل، على الغاء عقوبة الإعدام في لبنان. وقدمه النواب جورج عقيص، بولا يعقوبيان، فيصل الصايغ، حليمة قعقور، ميشال دويهي، أسامة سعد، والياس حنكش.
ويقضي الاقتراح بإلغاء عقوبة الإعدام أينما وردت، واستبدالها بالعقوبة القصوى التالية لها. وهو بالتالي يتناغم مع الاقتراح الذي ورد كبند أول، وإنما فقط لناحية ما يطالب به من أن يشمل العفو من الإعدام من ارتكبوا جرائم قتل قصدية، لا عمدية، بين العامين 1994 و2001، وصدرت بحقهم أحكام إعدام خلافًا لسواهم من مرتكبي جرائم القتل القصدية خارج تلك الفترة.



















