يواصل الجيش اللبنانيّ عمليّاته لملاحقة كبار رؤوس تجّار المخدّرات. شكّل توقيف أحد أكبر “أباطرة” تصنيع الممنوعات والمتاجرة بها نوح زعيتر محطّةً فاصلة في سياق الحرب على المخدّرات، لكنّها بالتأكيد ليست النهائيّة. وفق معلومات “أساس” هناك بنك أهداف متنوّع لا ينحصر ببقعة بعلبك- الهرمل والشراونة وحور تعلا، بل يمتدّ نحو البقاعين الغربيّ والأوسط ودير الأحمر، حيث “تتوارى” أسماء كبيرة، غير معروفة إعلاميّاً، تفضّل العمل low profile، وبربطات عنق، ويوجد بعضها في المجتمعات المخمليّة.
ساهم سقوط نظام بشّار الأسد بشكل أكبر في تطويق مافيات المخدّرات بعد التضييق الحدوديّ والفقدان التدريجيّ لـ”الملاذات الآمنة” لهؤلاء بفعل التغييرات الهائلة في المنطقة. التنسيق على المستويات العليا، الأمنيّة والسياسيّة، قائم ومستمرّ بين لبنان وسوريا.
ثمّة تبادل معلومات أمنيّة مع دول معنيّة، على رأسها المملكة العربيّة السعوديّة، وهو ما أسفَرَ في المرحلة الماضية، بجهد من كلّ الأجهزة الأمنيّة اللبنانيّة، عن تهاوي عدد كبير من شبكات الاتّجار بالمخدّرات وتصديرها، وضبط عشرات ملايين حبوب الكبتاغون والممنوعات بقيمة فاقت مليار دولار أميركيّ، ومعامل تصنيع فاق عددها 50، وأكبرها الذي ضَبَطته مخابرات الجيش في بلدة بوداي (داخله 64 مليون حبّة كبتاغون).
كان لافتاً في هذا السياق أنّ التقرير الذي نشرته وكالة “رويترز” في 13 تشرين الثاني الماضي، نقلاً عن مسؤول سعوديّ رفيع، والذي مهّد لقدوم وفد سعوديّ إلى لبنان للمشاركة في مؤتمر “بيروت 1” الاقتصاديّ وعلى رأسه الأمير يزيد بن فرحان، قد تضمّن رَبطاً حصريّاً تجلّى في القول إنّه يأتي “عَزم السعوديّة تعزيز العلاقات التجاريّة مع لبنان في أقرب وقت، وتذليل العقبات التي تُعطّل الصادرات اللبنانيّة إلى المملكة، بعدما أثبتت السلطات اللبنانيّة كفاءة في الحدّ من تهريب المخدّرات إلى المملكة خلال الأشهر الماضية”.
شكّل توقيف أحد أكبر “أباطرة” تصنيع الممنوعات والمتاجرة بها نوح زعيتر محطّةً فاصلة في سياق الحرب على المخدّرات
تضييق أمنيّ
لم يكن الخميس الواقع فيه 20 تشرين الثاني يوماً عاديّاً في مسار الإطباق على أحد أكثر تجّار المخدّرات والخارجين عن القانون إثارة للجدل، والذي “نَمَت” حالته الاستثنائيّة في كنف الحكومات المتعاقبة، وأحياناً “برعاية” كبار النافذين فيها.
توّج توقيف مخابرات الجيش “نوح زعيتر” مساراً من الملاحقات التي أفضت إلى توقيف عشرات تجّار المخدّرات ومصنّعيها ومصدّريها من “الفئة الأولى”، وضبط أضخم معامل التصنيع، وجرف “رَبعات” بيع المخدّرات وتعاطيها، حيث بدأ التضييق الفعليّ عليهم منذ تعيين العميد محمد الأمين رئيساً لفرع مخابرات البقاع في كانون الأوّل 2020، الذي عُيّن لاحقاً مديراً عامّاً للإدارة وعضواً في المجلس العسكريّ، ثمّ تعيين العميد محمد صفا رئيساً للفرع في أيّار من العام الحالي.
“أباطرة” الـ”كوك”
هكذا سبقت توقيف الجيش نوح زعيتر محطّات أمنيّة أدخلت التشويش والقلق إلى دائرة أباطرة الـ”كوك”. يتربّع على “عرش” هؤلاء علي منذر زعيتر، المعروف بـ”أبي سلّة”، وشريكه عباس علي سعدون زعيتر، الملقّب بـ”السلطان”، اللذين نفّذت مخابرات الجيش في 6 آب الماضي عمليّة أمنيّة نوعيّة للقبض عليهما، بمواكبة طوّافة عسكريّة، وجرى خلالها إطلاق نار على الجيش فقُتلا.
في أيلول كرّت السبحة، لجهة توقيف عبّاس ربيع عواضة، وحمزة راجح جعفر، ثمّ مقتل المطلوب الخطير حسن عبّاس جعفر الملقّب بـ”السبع”، وبدري زعيتر، الملقّب بـ”السائق”، والمعروف بتسهيله مرور وتحرّكات العديد من المطلوبين على المعابر غير الشرعيّة.
نوح زعيتر
جميع هؤلاء متورّطون بجرائم جنائيّة، بينها قتل عسكريّين وخطف وسرقة بقوّة السلاح وتزوير وقتل وفرض خوّات وتأليف عصابات. ودفع التضييق الأمنيّ بعضهم، كالمطلوب جلال شريف، إلى مغادرة لبنان إلى إفريقيا، وبعضهم إلى تركيا.
توّج توقيف مخابرات الجيش “نوح زعيتر” مساراً من الملاحقات التي أفضت إلى توقيف عشرات تجّار المخدّرات
هكذا أُوقف نوح زعيتر
فعليّاً، منذ نهاية آب الماضي، وتحت ضغط الملاحقات الأمنيّة، بدأ نوح زعيتر يُعدّل في إجراءاته الأمنيّة من خلال إخراج خطّه اللبنانيّ من الخدمة واستخدام خطّ دوليّ ذي إجراءات تقنيّة مغايرة، وخفض سيّارات المواكبة وعناصر المرافقة تدريجاً من أجل عدم لفت الانتباه، بعدما فقد الثقة حتّى بمحيطه القريب.
انتهى الأمر في نهار التوقيف بكمين محكَم على طريق الكنيسة- بعلبك تمّ تصوير وقائعه بكاميرا مُثبّتة على خوذة منفّذي المهمّة، وأخرِج فيه نوح من داخل جيب “إف جي كروزر”، من دون سيّارات مواكبة، وكان برفقته سائقه السوريّ فقط. اقتيد إلى وزارة الدفاع، من دون أيّ مقاومة، بعد سحب ما وُجِد من أسلحة في سيّارته.
سَبَق توقيفَ نوح اجتماعُ شقيقه (لديه شقيق ثالث س.ز مطلوب للعدالة) وعدد من أفراد العشيرة مع مسؤول عسكريّ في البقاع حمل رسالة بضرورة تسليم نوح زعيتر نفسه وبأنّ هناك قراراً بتوقيف جميع المطلوبين، ومن سيقاوم ويطلق النار فسيُردّ عليه بالنار.
في هذه الأثناء، كان نوح زعيتر قد ترك منزله في التل الأبيض على مدخل الشراونة، باستثناء بعض “الطلّات”، باتّجاه منازل آمنة في زحلة (هو من بلدة جلالا وأهله يقيمون هناك) والبقاع الشماليّ والكنيسة.
بالتزامن، حصلت “كبسات” أمنيّة على محيط منزله، تماماً كما حصل أمام منزل “أبي سلّة” قبل مقتله. في إحدى المرّات تمّ الدخول إلى منزل نوح زعيتر في التل الأبيض برفقة نجله، ثمّ اقتحام منزل صهره حيث ضُبط معمل كبير لتصنيع المخدّرات.
شبكات التهريب تتهاوى.. وتضييق أمنيّ على مافيا المخدّرات.. وثناء من السعوديّة
في يوم الثلاثاء الواقع فيه 18 تشرين الثاني، قبل 3 أيّام من توقيف نوح زعيتر، حصل اشتباك في بعلبك بين عناصر من الجيش والمطلوب علي عبّاس الصغير (المعروف بـ”حسّونة”) وعمّه حسين عبّاس، اللذين كانا يقومان بفرض خوّات، ففوجئا بدوريّة الجيش وبادرا إلى إطلاق النار. وهي العمليّة التي أدّت إلى استشهاد العسكريَّين في الجيش المعاون الأوّل بلال البرادعي والعريف علي حيدر، ومقتل حسين عبّاس.
شبكات تهريب
يُذكر أنّ قوى الأمن الداخليّ أحبطت عدّة عمليّات تهريب مخدّرات، وضبطت ممنوعات، ومنها قيام الشرطة القضائيّة في 18 تشرين الثاني بضبط نحو 8 ملايين حبّة كبتاغون وتوقيف المتورّط الرئيس، وذلك بعد تبادل للمعلومات بين وزارة الداخليّة السعوديّة ومكتب مكافحة المخدّرات في الشرطة القضائيّة، الذي أعلمه الجانب السعوديّ بضبط أكثر من 6 ملايين حبّة كبتاغون داخل أربع حاويات قادمة من ميناء طرابلس في ميناء جدّة وهي في طريق الترانزيت إلى الكويت، وكانت موضّبة داخل عبوات للدهانات.
بعد تحرّيات مكثّفة تمكّن مكتب مكافحة المخدّرات من توقيف المشتبه به في بخعون- الضنّية، وضبط المستودع والممنوعات، وتوقيف المشتبه به.
ثمّ أعلنت المديريّة في 25 تشرين الثاني تفكيك مكتب مكافحة المخدّرات في الشرطة القضائيّة شبكة تهريب، بالتعاون مع الجانب السعوديّ، بعد ضبط سيّارة قادمة من إحدى الدول الأوروبيّة تحتوي كوكايين و”إكستزي” موضّبة بطريقة احترافيّة، وتمّ توقيف أفراد الشبكة.



















