الحرب مؤجّلة حتى الربيع

أكثر ما يدعو إلى الاستغراب هو أنّ الأطراف التي ورطت لبنان بالهزائم أمام إسرائيل هي الأكثر مزايدة: «نرفض أي اتفاق سلام مع إسرائيل، إلّا بعد إجبارها على قبول شروطنا». في المبدأ، هؤلاء على حق، ولكن ليت الأمر سهلاً إلى هذا الحدّ. فهل عند المزايدين، الذين ورطوا لبنان في الهزائم، طريقة لإجبار إسرائيل؟ والأهم، هل يعرفون أنّ إسرائيل لا تريد أساساً توقيع أي اتفاق سلام مع لبنان في المدى المنظور، وأنّ هاجسها حالياً هو تغيير كل المعطيات على الأرض، ليأتي أي سلام أقرب إلى الاستسلام؟ وهل يدرك هؤلاء أنّ اتفاق السلام مع إسرائيل اليوم، إذا أتيح له أن يرى النور، سيحمل للبنان مشكلات وكوارث أقل بكثير من تلك التي قد يحملها الاتفاق بعد عام أو اثنين مثلاً، عندما تكون إسرائيل قد فرضت الوقائع الجديدة على الأرض؟

يعرف الأميركيون جيداً ما يفكر فيه بنيامين نتنياهو في لبنان وسوريا وغزة والضفة الغربية وإيران. هم لا يعارضون إسرائيل في كثير من الأهداف الاستراتيجية، لكنهم يرون مصلحة في تهدئة الجبهات وفتح أقنية التفاوض، وبناء مستقبل يقوم على تبادل المصالح الاقتصادية. أي إنّهم يريدون إغراء إسرائيل بمنحها مركز القيادة في السوق الشرق أوسطية – الأوروبية.

لهذا السبب، دعا دونالد ترامب رئيس وزرائها إلى اللقاء في واشنطن. لكن نتنياهو ليس مستعداً للتهدئة حالياً أو لإبرام اتفاقات سلام. هو يبحث عن الإخضاع أولاً، أي يجب على القوى المناهضة لإسرائيل، ولاسيما منها «حزب الله» و«حماس» أن تُهزم عسكرياً، أو على الأقل تُجرَّد من قدراتها في شكل فعّال. ويعتبر نتنياهو أنّ الاتفاقات السابقة فشلت لأنّها لم تستند إلى توازن حاسم للقوى، وأنّ من الخطأ اليوم إبرام اتفاقيات سلام جديدة ما لم يسبقها فرض الهيمنة العسكرية والأمنية المطلقة.

وهذا تحديداً ما يفسّر التصعيد المستمر في لبنان (وفي سوريا وغزة أيضاً) فنتنياهو يستفيد من إصرار «حزب الله» على رفض تسليم سلاحه، ومن ترداد مسؤوليه، وآخرهم ممثله في طهران، أنّ «الحزب» نجح في استعادة قدراته، ولو جزئياً.

النظرة الأميركية مختلفة في التكتيك. فترامب يرى أنّ استقرار الشرق الأوسط ضروري لضمان تدفق النفط والأسواق وتحقيق إنجازات ديبلوماسية يمكن تسويقها للناخب الأميركي. وهو تالياً يعمل لتجنّب حرب إقليمية تُعكّر صفو أجندته وتُحمّل الولايات المتحدة تكاليف عسكرية ضخمة، فيما هو يطمح إلى تصفير الوجود العسكري الأميركي المباشر وتقليل الأكلاف.

يعتقد ترامب أنّ الصفقات السياسية بين لبنان وإسرائيل ستكون مفيدة، ولو جاءت منحازة إلى إسرائيل. وهو يخشى أن يؤدي تصعيد نتنياهو غير المنضبط إلى إثارة ردّ فعل إيراني واسع يفرض تدخّلاً عسكرياً أميركياً لا يرغب فيه. أي إنّ ترامب يريد التهدئة للتوصل إلى سلام سريع ورخيص الثمن يخدم المصالح الأميركية. في المقابل، يرفض نتنياهو أي تهدئة إلّا بعد تحقيق عمليات إخضاع مكلفة عسكرياً وتخدم المصالح الأمنية الإسرائيلية البعيدة المدى. فهل يستطيع نتنياهو رفض طلب واشنطن؟

على الأرجح، في لقاء 29 من الجاري، سيناور نتنياهو، فيوافق على تجميد شكلي وموقت للحرب، ويقدّم وعوداً غامضة بضبط النفس، لكنه سيترك الباب مفتوحاً لعمليات «محدودة» في انتظار اللحظة التي تسمح له بالانقضاض على «حزب الله» و«حماس» وإيران، سعياً إلى تحقيق الأهداف الكبرى التي يبيتها اليمين القومي والديني في إسرائيل، وتتلخّص باعتبار أرض «إسرائيل الكبرى» هدفاً لا يجوز التنازل عنه. وسيحاول نتنياهو إقناع ترامب بأنّ كل عملية سلام سابقة تضمنت انسحابات إقليمية (مثل سيناء أو غزة) أثبتت أنّها كانت فعلاً منصة إطلاق لتهديدات أمنية جديدة، كما حدث عند عملية «طوفان الأقصى». لذلك، يسوّق نتنياه‍و لمقولة أنّ اتفاق السلام غير وارد إلّا بعد تصفية القدرات العسكرية للطرف المقابل، وفي شكل لا رجعة فيه. فالهدف الحقيقي ليس مجرد أمن الحدود، بل هو إعادة التعريف بالحدود نفسها. ولذلك، هناك إصرار إسرائيلي على التمركز والتوغل في مناطق لبنانية والسيطرة على مرتفعات استراتيجية كجبل الشيخ، والتأسيس لعمق أمني يمتد إلى داخل أراضي الدول المجاورة. ولا يقتصر التوسع على الجغرافيا، بل يشمل الديمغرافيا أيضاً. فالتهجير وارد جداً. وفي ظل ذلك، يتمّ تحويل الأنظار عن أمر خطِر يجري في الضفة الغربية، هو تسريع وتيرة الاستيطان، ما سيجعل فكرة الدولة الفلسطينية أمراً شبه مستحيل.

بالمفاوضات، نتنياهو يكسب الوقت لا أكثر. ولذلك، سيكون من السذاجة بمكان أن يقع اللبنانيون في فخ المراوحة عند نقطة معينة في المفاوضات. مثلاً، هل يتمّ توسيع التفاوض المدني بضمّ آخرين إلى الوفد اللبناني، تحقيقاً للتوازن الطائفي؟ وسيكون أمراً تافهاً أن يفكر اللبنانيون في ما إذا كان التفاوض سيتمّ مباشرة بين الوفدين أو من خلال الوسيط الأميركي، فيما الجميع جالس في مكان واحد. والأدهى هو أن يغرق اللبنانيون في سجالات حول الأمور التي يجب أن يقبلوها أو يرفضوها في المفاوضات، فيما إسرائيل لا تريد المفاوضات ولا الاتفاق أساساً، وفيما ماكينتها تطحن ما تريد خارج قاعات التفاوض، بدءاً من خط الناقورة- مزارع شبعا.

التسريبات الأخيرة تحدثت عن بضعة أسابيع من الهدنة الإضافية، ربما ثمانية، ليتسنى للجيش اللبناني أن يعلن انتهاءه من المرحلة الأولى من خطته، في جنوب الليطاني، ويكتشف الجميع أنّ لبنان الرسمي ليس مستعداً إطلاقاً لمغامرة نزع السلاح في شمال الليطاني. وفي هذه الحال، سيعلن نتنياهو أنّ مبرّر الحرب الكبرى بات واضحاً ولا يمكن لأحد إنكاره، وأنّ على الولايات المتحدة أن تقف إلى جانب حليفها الشرق أوسطي في الأوقات الصعبة. ولذلك، ليست هناك حرب إسرائيلية كبرى خلال الأسابيع القليلة المقبلة، ولكنها ستندلع على الأرجح في الربيع… إلّا إذا حصلت إسرائيل بالمفاوضات على ما تسعى إلى تحقيقه. ولأنّ تقديم لبنان لهذا التنازل الكبير ليس وارداً، فالحرب آتية في الربيع. والربيع، كثيراً ما يذكّر اللبنانيين بحروب واجتياحات وأيام صعبة.

اترك تعليق