الزيادات إبرة مُخدّرة… فما المطلوب؟

تعكس دعوة المدير العام لمؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان والبقاع جان جبران للموظفين الذين يمارسون عملاً ثانياً، للاستقالة من وظيفتهم، ذروة الأزمة التي يعاني منها القطاع العام في لبنان لجهة الإنتاجية، والعجز عن اتخاذ أي إجراء بحق غير الملتزمين في ظل الظروف الحالية، حيث يعاني موظفو القطاع الرسمي من ضائقة معيشية بالغة، ما اضطرهم لإهمال الوظائف، وهو أمر ينعكس أيضاً على سير العمل ونوعية الخدمات في البلاد.

ومرّ عيد العمال على الموظفين اللبنانيين مصحوباً بجملة تحديات مالية ووظيفية، حيث تفاقمت المعاناة، ولم تعد المطالب تقتصر على تحسين الأجور، بقدر ما تطالب بإجراءات هيكلية تعزز العمل في الإدارات العامة، وتمنح الموظفين ما يمكّنهم من البقاء على قيد الحياة، بموازاة صراع عمالي، منعاً لتحويل موظفي القطاع العام إلى مياومين، وصراع آخر لإعادة الحماية الاجتماعية من طبابة وتعليم إليه، على خلفية اشتداد الأزمة، وتدهور تلك الخدمات.

وأتاحت الأزمة للموظفين البحث عن مصادر رزق أخرى إلى جانب الوظيفة، بعد تدهور قيمة الرواتب إلى أكثر من 80 في المائة، فقد لجأ موظفون إلى أعمال أخرى خاصة أو وظائف رديفة، فيما تعاني الإدارة من نزيف الموظفين الذين هاجروا في حال توافرت الفرص لهم.

وأمام هذا الواقع، جاء نداء المدير العام لمؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان والبقاع جان جبران لموظفين يمارسون أعمالاً أخرى، بالاستقالة الطوعية. ولم ينفِ جبران «الظروف المعيشية الصعبة التي تمر علينا جميعاً، خصوصاً أن أجور ورواتب العمال والموظفين أصبحت ضئيلة جداً مقابل الغلاء الفاحش، وانهيار العملة الوطنية، رغم بعض الزيادات التي حصلنا عليها».

وناشد جبران «الذين يمارسون عملاً ثانياً مع عملهم في المؤسسة، والذين لا يداومون بحجة عدم إمكانية الوصول إلى العمل، والذين لا يرغبون في الاستمرار في العمل في هذه الظروف الصعبة، أو الذين أنشأوا عملاً خاصاً بهم أو لأي سبب آخر، القيام بمبادرة شخصية ضميرية جريئة، بتقديم استقالتهم من العمل في المؤسسة، لإفساح المجال لدعم الذين بإمكانهم المواظبة في العمل بصدق وجدية».

وأعلن جبران أن «الإدارة تدرس مع المديرين ورؤساء الدوائر وضعية كل العمال، وتقييم حضورهم وإنتاجيتهم في العمل، ليُبنى على الشيء مقتضاه، خلال فترة أقصاها آخر شهر آب من السنة الحالية»، طالباً من الموظفين «التفهّم والمساعدة للمصلحة العامة».

وبدا تصريح جبران مفاجئاً، لتزامنه مع عيد العمال الذي «يفترض أن يكون مساحة لحماية العمال وظيفياً والتضامن معهم في هذه الظروف»، وفق ما تقول مصادر العاملين في المؤسسة، فيما يتخوف مديرون فيها من أن «تسهم الدعوة لتأجيج حالة إضافية من الفوضى التي تعيشها المؤسسات، وفي المقابل يدفع ثمنها المواطن بتراجع إضافي في الخدمات».

وتحاول الحكومة اللبنانية تحسين رواتب الموظفين عبر مساعدات اجتماعية وتقديمات مالية، لتخفيف الأعباء عن موظفي القطاع العام، وتأمين استمراريتها واستمرارية الخدمات. فعلى مرحلتين، رفعت الرواتب إلى حدود 6 أضعاف، خلال عامين، بالتزامن مع تدهور قيمة العملة التي تراجعت قيمتها من 1500 ليرة للدولار الواحد، إلى مائة ألف ليرة للدولار الواحد. كما يتيح مصرف لبنان، استثنائياً، للموظفين قبض رواتبهم بالدولار الأميركي على سعر صرف 60 ألف ليرة عبر منصة «صيرفة» العائدة له، ما يعني رفع قيمة الرواتب نحو 40 في المائة، وذلك بعدما باتت معظم السلع في لبنان تُباع بالدولار الأميركي.

ويفرض هذا الوضع القائم أعباء إضافية على المؤسسات والخدمات على حد سواء، وتعاني معظم المؤسسات من تداعيات هذه الأزمة، حيث تنشط النقابات العمالية على خط التواصل الحكومي لمعالجة أوضاع الموظفين والعمال بالتفصيل، مؤسسة تلو مؤسسة.

وإذ يتريث الاتحاد العمالي العام قبل إبداء أي موقف مختص بقرار المدير العام لمؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان والبقاع جان جبران، يشير رئيس الاتحاد بشارة الأسمر إلى أنه اتفق في الأسبوع الماضي مع جبران على اجتماع عام يحضره رؤساء النقابات في المؤسسة ورؤساء مجالس إدارتها مع وزير الطاقة وليد فياض، لمعالجة وضع العمال في المؤسسة، وتأمين استمراريتهم، وتمكينهم من ارتياد مواقع عملهم.
واتخذ الحراك العمالي هذا العام شكلاً مختلفاً، حيث يسعى الحراك النقابي لتأمين استمرارية العمال في العمل، وتمكينهم من ارتياد وظائفهم.
ويقول الأسمر لـ«الشرق الأوسط» إن الرواتب التي دُفعت عبر زيادات متتالية للموظفين «لا تتعدى كونها إبراً مخدرة في حين يستمر سعر صرف الدولار وسعر الصرف عبر منصة (صيرفة) بالصعود»، لافتاً إلى أن الزيادات الأخيرة «التهمها التضخم، وارتفاع سعر صرف الدولار»، مشدداً على أن الحل «لا يمكن إلا أن يكون سياسياً، ينتج حكومة قادرة على التحرك، وتبدأ بوضع سقف لسعر صرف الدولار».
ويشير الأسمر إلى أن «كل الزيادات على الرواتب مهددة بفقدان قيمتها في حال ارتفع سعر صرف الدولار مرة أخرى»، مضيفاً: «أمام هذا الواقع، لن نطالب بزيادة الرواتب؛ لأن الأمور تدور في دوامة قاتلة… ما نطالب به هو حل سياسي وبداية حل اقتصادي يؤدي إلى وقف صعود سعر صرف الدولار».

ويبلغ عدد الموظفين في الإدارات العامة نحو 90 ألفاً، وتوقف التوظيف بمعظمه في عام 2017 إثر قرار من الحكومة بوقف تضخم القطاع العام، رغم الحاجة إلى موظفين في بعض الإدارات، ما يؤدي إلى تأخير معاملات المواطنين.

ويقول الأسمر: «هناك مقاربات خاطئة من جهات عدة، بينها البنك الدولي الذي يطالب بترشيق القطاع، علماً بأن معظم الموظفين هم في المؤسسات العسكرية والأمنية»، لافتاً إلى أن الأساتذة في القطاع الرسمي «يعانون أيضاً، ورميت على عاتقهم مهام إضافية في ظل وجود النازحين، ما يفترض إعطاء الدروس قبل وبعد الظهر في دوامين مختلفين». ويعرب عن مخاوفه من تحول الموظفين إلى «مياومين» على صعيد الحصول على بدل النقل، بفعل الشروط المرتبطة بالإنتاجية في المؤسسات الحكومية، داعياً إلى «وجوب وضع إطار سليم للزيادات في القطاع العام، بحيث تكون ممولة بطريقة مدروسة تؤمن الاستمرارية».

اترك تعليق