الفاتيكان : أقوى جهاز مخابرات في العالم

في الكرسي الرسوليّ، نجد أكبر كميّة من المعلومات حول ما يحدث في العالم”. قول مأثور للسفراء الفرنسيين لدى الفاتيكان. وفرنسا أوّل دولة أقامت علاقات دبلوماسيّة معه (1463). للفاتيكان اليوم تبادل دبلوماسيّ مع 184 دولة (من أصل 195 دولة) آخرها سلطنة عمان (2023). العديد من هذه الدول لا مواطنين مسيحيين فيها ولا كاثوليك. كما له تبادل دبلوماسيّ مع تكتّلات إقليميّة بينها جامعة الدول العربيّة. والكرسيّ الرسوليّ عضو في أكثر من 45 جمعية دوليّة أبرزها الأمم المتّحدة حيث له صفة عضو مراقب. يفضّل هذه الصفة لينأى بنفسه عن صراعات الدول ولتبقى دبلوماسيّته فوق دبلوماسيّاتها.

أكبر خّزان معلومات في العالم
ككلّ دولة في العالم، السفارات مصدر معلومات مهمّ لدولة الفاتيكان. ولكن، على خلاف كلّ الدول، لا يستقي الكرسي الرسوليّ معلوماته من سفاراته فحسب، إنّما أيضاً من الأبرشيات والرهبانيّات والمؤسّسات الكنسيّة الكاثوليكيّة المنتشرة في كلّ أصقاع الأرض. كما يمكن لأيّ كاهن وراهب وراهبة وعلمانيّ إرسال رسالة أو تقرير إلى إحدى الدوائر الفاتيكانية حول مسألة كنسيّة أو سياسيّة أو اقتصاديّة أو اجتماعيّة أو إنسانيّة أو أخلاقيّة… وتتجمّع غالبيّتها في “أمانة سرّ الدولة”. كما ترد تقارير مباشرة إلى دوائر متخصّصة مثل: “دائرة كنائس الشرق الأوسط”، “دائرة الثقافة والتربية”، “دائرة حوار الأديان”، إلى ما هنالك من دوائر… حيث تُقرأ وتُحفظ. هذا ما يجعل الكرسيّ الرسوليّ أكبر خزّان للمعلومات في العالم. يتفوّق على وكالات الاستخبارات الأميركيّة وجهاز المخابرات الروسيّ (وريث الكي. جي. بي. السوفيتيّ). حتى أقسى الأنظمة الديكتاتوريّة لم تستطع حجب المعلومات عن الفاتيكان. عندما يتعذّر إيصال التقارير عبر الحقائب الدبلوماسيّة أو الوسائل التقليديّة، فإنّ للكنائس المحليّة أساليبها الخاصّة لإيصال المعلومات إلى الفاتيكان. هذا الكمّ من المعلومات هو أحد عناصر قوّة الفاتيكان وقوّة دبلوماسيّته في العالم التي لم تتوقّف حتى في الفترة التي لم يكن له فيها صفة دولة بعد خسارته آخر إماراته (1870) وقبل توقيع اتّفاق اللاتران مع الدولة الإيطالية (1929) وتأسيس دولة الفاتيكان الحاليّة.

صحيح أنّ الفاتيكان يعمل لحماية الكاثوليك في العالم والدفاع عن وجودهم وحضورهم، وهو همّه الأول تجاههم في الشرق الأوسط، بيد أن لا مصالح سياسيّة له في الدول

غزّة وسوريا ولبنان
مناسبة هذا الكلام هو الخطاب الذي ألقاه البابا فرنسيس أمام السلك الدبلوماسيّ المعتمد لدى الكرسيّ الرسوليّ يوم الإثنين 8 كانون الثاني. خطاب شامل لكلّ القضايا العالميّة (صراعات وحروب وأزمات اقتصاديّة واجتماعيّة وإنسانيّة وبيئيّة…) يدلّ على متابعة الفاتيكان لها من خلال معلومات دقيقة.
حرب غزّة والأوضاع في سوريا ولبنان كانت لها مساحة كبيرة في الخطاب. كرّر الحبر الرومانيّ إدانته لهجوم حماس في 7 تشرين الأول و”الردّ الإسرائيليّ العنيف الذي أدّى إلى مقتل عشرات آلاف الفلسطينيين، غالبيّتهم من المدنيين”. وكرّر الدعوة إلى “وقف للنار على كلّ الجبهات، بما فيها لبنان”. وطلب أن يحصل الشعب الفلسطينيّ على المساعدات الإنسانيّة، وأن تحظى المستشفيات والمدارس وأماكن العبادة بالحماية الضروريّة. وأمل أن “تكمل الأسرة الدوليّة العمل بتصميم من أجل حلّ الدولتين… ووضع دوليّ خاصّ لمدينة القدس”.
دعا الأسرة الدوليّة إلى عدم نسيان سوريا “الأرض الشهيدة”. ودعاها إلى تشجيع الأطراف المعنيّة على حوار جدّي وبنّاء. وكرّر “حزنه بسبب وضع ملايين اللاجئين السوريين في بلدان الجوار، في الأردن ولبنان”.
أضاف البابا: “أوجّه تفكيراً خاصّاً من أجل هذا الأخير (لبنان)، لأعبّر عن قلقي للأوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي يعيشها الشعب اللبنانيّ. وآمل أن يُحلّ المأزق الدستوريّ الذي يركّع البلد، وأن يكون لبلد الأرز رئيس عمّا قريب”.

صراعات وكوارث وقضايا عالميّة
طبيعي أن يثير البابا “الحرب التي تشنّها روسيا منذ سنتين ضدّ أوكرانيا”. وأعرب عن قلقه من “الوضع المتوتّر” بين أرمينيا وأذربيجان، وأسفه للأزمات الإنسانيّة في دول الساحل الإفريقيّ، و”الأحداث الأليمة في السودان”، والعنف في إثيوبيا، وعدم الاستقرار في بلدان القرن الإفريقيّ، إلى ما هنالك من صراعات وتوتّرات في أميركا وآسيا.

الصين والمملكة العربية السعوديّة من أبرز الدول القليلة التي ليس لها تبادل دبلوماسي مع الكرسي الرسوليّ. بيد أنّ علاقاته مختلفة مع الدولتين

كرّر دعوته التي أطلقها من مدينة مرسيليا الفرنسيّة إلى أن يكون البحر المتوسط “بحر تلاقِ وغنى متبادل بين الأشخاص والشعوب والثقافات” لا بحر صراعات ومقبرة للمهاجرين اليائسين.
كما تطرّق إلى الكوارث الطبيعيّة التي ضربت العام المنصرم المغرب والصين وتركيا وسوريا وليبيا. وحيّا الاتفاق الأمميّ على إعلان دُبي من أجل المناخ.
بدا خطاب البابا فرنسيس أشمل من “الخطاب الفدرالي” للرئيس الأميركيّ. وأكّد قول الدبلوماسيين الفرنسيين حول معلومات الفاتيكان الدقيقة عن كلّ ما يحدث في العالم.
ربّما يتساءل البعض ما فائدة هذه المعلومات؟ ولماذا يتطرّق رأس الكنيسة الكاثوليكيّة إلى كلّ هذه الأزمات والصراعات؟ وما تأثيره فيها؟

دبلوماسيّة قويّة
في توجيه لمبعوثه إلى البابا، قال نابوليون “تعامل معه على أنّ لديه 200 ألف رجل”. بعد عودته قال الدبلوماسيّ ساخراً: “كان الأفضل القول إنّ لديه 500 ألف رجل”. كما سأل ستالين الزعيم البريطاني ونستون تشرشل ساخراً: “كم فرقة مدرّعة لدى الفاتيكان؟”. وقال سابقاً ردّاً على من كان يخشى اضطهاد النظام السوفيتي للكاثوليك: “أحبّ الاتفاق مع قوى لديها جنود ومدافع”. ديكتاتوران لم يؤمنا إلا بالقوّة العسكريّة. كانا يجهلان قوّة الفاتيكان المعنويّة والدبلوماسيّة.

إضافة إلى المعلومات الدقيقة عمّا يدور في العالم، قوّة الدبلوماسيّة الفاتيكانيّة في أنّها لا تريد شيئاً لها. صحيح أنّ الفاتيكان يعمل لحماية الكاثوليك في العالم والدفاع عن وجودهم وحضورهم، وهو همّه الأول تجاههم في الشرق الأوسط، بيد أن لا مصالح سياسيّة له في الدول. منطلقاته لمقاربة القضايا العالمية هي المبادئ المسيحيّة والإنسانيّة والقوانين الدوليّة. يضع معلوماته ودبلوماسيّته في خدمة الإنسان وكرامته. هذا ما يتعلّمه الكهنة والأساقفة في “الأكاديمية الكنسيّة الحبريّة” ليصبحوا سفراء. وهي الأكاديمية الأقدم من نوعها في العالم. تأسّست في عام 1701. تخرّج منها آلاف رجال الدين الذين عملوا في الحقل الدبلوماسيّ. من بينهم البابوات بيوس الـ12 ويوحنا الـ23 وبولس السادس.

إقرأ أيضاً: جائزة الملك فيصل العالميّة لمحمّد السمّاك

تبادل دبلوماسيّ مع السعوديّة!
الصين والمملكة العربية السعوديّة من أبرز الدول القليلة التي ليس لها تبادل دبلوماسي مع الكرسي الرسوليّ. بيد أنّ علاقاته مختلفة مع الدولتين. فهي متوتّرة مع الصين منذ خمسينيات القرن الماضي. في تصريح له خلال عودته من زيارته لكازاخستان، قال البابا فرنسيس: “إنّها بلد معقّد جداً… من الصعب فهم العقلية الصينيّة، لكن يجب احترامها”. في عام 2018 توصّل الطرفان إلى توقيع اتفاق تاريخيّ حول تسمية الفاتيكان للأساقفة الكاثوليك وإعادة توحيد الكنيسة الكاثوليكيّة الرسميّة وتلك السرّيّة. وتمّ تجديده في 2022.العلاقات بين الكرسيّ الرسوليّ والمملكة السعودية تشهد تطوّراً كبيراً. في 2007 زار الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز الفاتيكان والتقى البابا بندكتوس الـ16. وللكرسيّ الرسوليّ صفة عضو مراقب في مركز حوار الأديان الذي أسّسه الملك الراحل ومركزه فيينا. وفي 2018 زار الكاردينال الراحل جان لويس توران المملكة بدعوة من الملك سلمان بن عبد العزيز. سياسة الانفتاح الشاملة التي يقودها وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان تهيّئ الأرض لإقامة التبادل الدبلوماسيّ مع الفاتيكان. كذلك زيارات البابا فرنسيس لدول الخليج. فهل نشهد تبادلاً دبلوماسيّاً قريباً بين الدولة التي تحتضن أوّل الأماكن المقدّسة في الإسلام وأوّل مرجعية مسيحيّة في العالم؟ مصادر في الفاتيكان تؤكّد أنّ الحوار مستمرّ ويتعمّق أكثر فأكثر بين الدولتين.
جائزة “الملك فيصل لخدمة الإسلام” لعام 2024 للزميل الدكتور محمد السمّاك “لإسهاماته في تعزيز الحوار الإسلامي المسيحيّ” مؤشّر إلى الأهميّة التي توليها المملكة لهذا الحوار.

اترك تعليق