منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، تواصل رئاسة الحكومة عملية صعود مستمر ليس باتجاه القمة، بل نحو الهاوية، مع تراجع موقعها في عملية صياغة القرار الاستراتيجي الوطني، وانحسار تأثيرها على صعيد الآليات التنفيذية والديناميات السياسية الداخلية، حتى أضحت مجرد متفاعل هامشي مع التحولات الجارية، ومغيبة بقرار ذاتي عن عملية إعادة تشكيل التوازنات وإدارة مرحلة تتسم بالحساسية الشديدة.
المسألة تتجاوز الانتقادت التي توجه للرئيس نواف سلام وأدائه ونهجه، وتتصل بإرث أسلافه وتكتلهم “نادي رؤساء الحكومات”، الذي يمارس نوعًا من الطبقية السياسية مع محاولته اختزال الساحة السنية ونخبها عبر “صفوة الصفوة”، وليّ عنق آليات التمثيل الديمقراطي لفرض وصاية فوق دستورية وقانونية على رئاسة الحكومة، تجعله مرجعية تمسي أكثر تماهيًا مع دور مرشد الثورة الإسلامية في إيران.
ومع أن هذا النادي ولد كمنصة ضغط للحد من تفريط سعد الحريري، إلا أنه أنتج احتكارًا للسلطة عبر ثنائية الحريري – ميقاتي، أو عبر شخصية منتقاة من قبلهما لحماية مصالحهما والالتفاف على غضب الشارع، مع حفظ دور الحارس والمبادر لصانع النادي الرئيس فؤاد السنيورة بمكانة متقلبة ترتبط بالمزاج الحريري، ليغدو الرئيس تمام سلام نافرًا بينهم في ظل رفضه المتكرر لرئاسة الحكومة.
هذه الثنائية الطبقية أسهمت في تدمير الدور السياسي الحيوي لرئاسة الحكومة ورمزيتها “الزعاماتية”، وحولتها إلى موقع بروتوكولي، بدءًا من خضوع الحريري لرئاسة موازية عنوانها جبران باسيل وسلوكياته المستفزة، وصولًا إلى وضع ميقاتي السراي ومعها بعبدا إبان الفراغ الرئاسي في جيب الرئيس نبيه بري “الصغير”، وخصوصاً في مسألة اتفاق وقف إطلاق النار الذي كان فيه أقرب “إلى شاهد ما شافش حاجة”، وما بينهما.
وتستخدم هذه الثنائية اليوم نفوذها المؤسسي وتأثيرها الإعلامي للإطباق على “السراي الكبير” سياسيًا وإداريًا، وما استفاقة نادي رؤساء الحكومات بعد غيبوبة لزيارة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط إلا خطوة لتوطيد مرجعيته الطبقية على حساب رئاسة الحكومة.
ومع ذلك، ورث الرئيس نواف سلام رئاسة مهشمة، فحاول تطبيق قناعاته لإرساء أداء مختلف عن أسلافه، غير أن هناك ثمة ثغرة في العلاقة مع الرأي العام، أوجدت جملة من الملاحظات على نهج السراي.
أُولاها، الالتباس المحيط بغياب رئيس الحكومة للمرة الثانية عن الاجتماع الأمني الموسّع الذي عقده رئيس الجمهورية، واعتبار البعض أن الرئيس سلام لو كان أبدى ردّ فعل صلبًا أول مرة، وسارع إلى معالجة القضية مع رئيس الجمهورية بشكل ثنائي لما تكرّر الأمر، خصوصاً في ظل معرفته بما زَخَرَ به العهد الماضي من محاولات لترسيخ أعراف تستند إلى قاعدة أن الصلاحيات “تُفرض ولا تُعطى”.
ناهيكم عن افتقار عملية صياغة العلاقة بين الرئاسات دستورياً وبروتوكولياً إلى الندية، ولا سيما مع كثرة زيارات سلام إلى “عين التينة”، وما تقابل به المرونة التي يبديها منذ لحظة تكليفه من ضخ مناخات إعلامية مضلّلة غداة كل زيارة تُسهم في إضعاف صورته وموقعه، في ظل فجوة هائلة في التأثير الإعلامي بين الرئاستين يصعب رتقها.
يضاف إلى ذلك فقدان رئاسة الحكومة زمام المبادرة ووقوعها و”دار الفتوى” في موقع ردّ الفعل، مع تحركهما المتأخر غداة استنكار المرجعية الدينية الدرزية المحق لغياب التواصل السني. في مثل هذه اللحظات الحساسة، وفي ظل المناخات التحريضية الخطيرة، تكتسب الصورة كما المواقف الصادرة عن الزعامات والمرجعيات وتوقيتها ومنابرها أهمية قصوى. وتاليًا كان لا بد من إجراء زيارة لدارة وليد جنبلاط، تسهم في تعزيز مظلة الدعم لمواقفه الرصينة والدور الذي يلعبه في تهدئة الاحتقان الدرزي والسني، بموازاة إظهار مكانة رئاسة الحكومة كفاعل وطني، وق